شعار قسم مدونات

لا بد أن تعبر هذا الوحل

blogs - رحيل رجل أبيض وأسود
لو سألني أحدهم قبل ثماني سنوات: ما هو أسوأ مصير يمكن أن ينتهي إليه المثقف؟ لأجبت: الاشتغال بالسياسة. وما زلت أتذكر تلك اللحظة التي كنت أستمع فيها مع أصدقائي إلى المطربة عزيزة جلال في أغنية "روحي فيك" من ألحان كمال الطويل. يومها قلت لأصدقائي: تخيلوا هذا اللحن الجميل لملحن عبقري قرر أن يترك عالم الفن ليشتغل بعالم السياسة! أي مغفل هذا؟ ما الذي جناه من عالم السياسة غير وجع القلب وذهاب الصيت؟!

لم يكن يخطر ببالي حينها أني سألقى نفس المصير، وأصبح غارقاً في السياسة من رأسي حتى قدمي. أن أترك تأملاتي البحثية في اللغة والتاريخ والأدب والفلسفة والدين، وأذهب بقدمي إلى حلبة مصارعة الثيران. ليس هذا فحسب، بل إن الظروف الجديدة قد أخذتني حتى عن لذتي الكبرى: القراءة والتأمل، إذ لم يحدث أن انقطعت عن المطالعة كل هذا الوقت منذ عرفتها في أواخر العام 1985. 
لكن هل كان لدي خيار آخر؟ هل كان بإمكاني أن أرضى بدور المتفرج المحايد على ما يحدث لمجتمعي وبلدي؟ هل كان من المناسب أن أجلس في مقاعد المتفرجين إلى حين ينتهي اللاعبون من تقرير مصيري ومصير ذريتي ومجتمعي؟ هل كنت قادراً على إسكات ذلك الصوت الداخلي العميق الذي يسمونه الضمير كلما رأيت باطلاً يصاول الحق؟ بالطبع لا، لأني لو فعلت سأخسر أمرين ليس في مقدوري خسارتهما. الأول خسارة نفسي أمام نفسي، والآخر خسارة سمعتي كمثقف بسيط.

هكذا كنت أفهم وظيفة المثقف في الحياة، فارس من فرسان النور حسب وصف باولو كويلو، ينحاز لقيم الحق والخير والجمال، ويقاتل في سبيلها إذا لزم الأمر. أعرف أنه تفكير مثالي، لكنه تفكير ضروري للحفاظ على قدر معقول من إنسانية الحياة التي تندفع إلى التوحش بحكم الغرائز الحيوانية والنزعات الشيطانية التي تسكن الإنسان.

حاولت إفهام المعترضين أن السياسة ليست شيئا آخر غير الحياة، وليس في وسع المثقف الجاد أن يتجاهل الحياة بحجة أنه مثقف. إن هذا يشبه أن تتجاهل الحريق في شقتك بحجة أنك لست إطفائيا. وما دمت قد قررت الخوض في السياسة فلا مفر أمامك من الانحياز.

إن المثقف هو الحصن الأخير لإنسانية المجتمع إذا هاجمته ذئاب البرجماتية السياسية. ومن حسن الحظ أن مثقفين كباراً أمثال إدوارد سعيد قد آمنوا بهذه الوظيفة بعد أن سعى بعض المثقفين إلى تسخيفها، تحت تأثير رياح التفكيك العدمية وعقيدة النسبية السائلة.

كثيرون ممن كان يتابع نشاطي الفكري عاتبوني على انصرافي في السنوات الأخيرة إلى الاهتمام بالشأن السياسي. وكثيراً ما تذكرت كلام توفيق الحكيم وهو يحذر المثقف من الانزلاق إلى حلبة السياسة. إلا أن خاتمة توفيق الحكيم نفسها في كتابه "عودة الوعي" كانت هي الرد المناسب على من يعيب على المثقف الخالص الاشتغال بالسياسة. فقد كان كتابه المذكور بمثابة مرافعة سياسية هائلة وغير متوقعة من أديب معتق مثله. لقد بدا أنه يستطيع التحدث في السياسة أحسن من بعض أربابها، وهو المتهم بالانعزال في برجه العاجي. ولا أظن أن هناك وثيقة تدين العهد الناصري بوضوح وقوة كتابه "عودة الوعي".

ومثله فعل أستاذ الفلسفة الكبير فؤاد زكريا في إدانته للعهد الناصري – أيضاً – بكتاب "كم عمر الغضب، هيكل وأزمة العقل العربي" وهو المحسوب على تيار اليسار. وفي قراءته الذكية لتجربة رئيس الاتحاد السوفيتي الأخير جورباتشوف مع البرسترويكا في كتابه "مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جرباتشوف؟" وغيرها من الكتب والمقالات في نقد السياسة الأمريكية والنموذج الأمريكي، وفي نقد الحركات والاتجاهات السياسية.

وإذا كان الحكيم وزكريا قد اشتغلا بالسياسة عبر الكتابة وحدها فإن عبد الوهاب المسيري قد نزل إلى الشارع بنفسه، ليشارك في تأسيس حركة المعارضة السياسية "كفاية"، وليكون في مواجهة مباشرة مع عساكر الأمن المركزي المصري، وهو يعاني مرض السرطان.

فالمبالغة في شيطنة بعض مكونات الحياة السياسية السابقة ورموزها كانت أثراً من آثار الرؤية المثالية الساذجة. والرغبة في اجتثاث كامل الطبقة السياسية على غرار الثورتين الروسية والفرنسية هو إغراق في التفكير المثالي الساذج.

حاولت إفهام المعترضين أن السياسة ليست شيئا آخر غير الحياة، وليس في وسع المثقف الجاد أن يتجاهل الحياة بحجة أنه مثقف. إن هذا يشبه أن تتجاهل الحريق في شقتك بحجة أنك لست إطفائيا. وما دمت قد قررت الخوض في السياسة فلا مفر أمامك من الانحياز – بعض الوقت – لطرف من أطراف الصراع، ليس لأنه – بالضرورة – ممثل الصواب والحق، وإنما لأنه الأكثر خدمة لأهدافك، بوعي منه أو بدون وعي. المهم أن تكون الأهداف سامية والطريق واضحا.

وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم سبق أن اشار إليه الفيلسوف العربي زكي نجيب محمود. ذلك هو التمييز بين ثلاثة مواقف في الحياة عموماً وفي الحياة السياسية على وجه الخصوص، ينبغي أن تقفها إذا واجهتك مشكلة هي: الموقف الواقعي عند تشخيص المشكلة، والموقف المثالي عند وضع الحلول النظرية، والموقف العملي عند الشروع في الحل.

وعدم التمييز بين هذه المواقف الثلاثة قد يسبب سوء فهم حاد، مثل ذلك الذي وقع لبعض مثقفي اليسار في اليمن عقب ثورة 11 فبراير اليمنية على الأقل. فقد وجد هؤلاء – وأكثرهم شباب – أن الثورة لم تجتث كامل الطبقة السياسية التي ثاروا ضدها كما كانوا يأملون، وإنما اكتفت بإزاحة بعض رموز النظام السابق، وهي نتيجة لا يرضاها تفكيرهم المثالي، فاندفعوا لتأييد حركة سياسية معارضة هي الأكثر رجعية وانتهازية وفساداً من كل الطبقة السياسية التي خرجوا ضدها.

لقد كان واضحاً من الوهلة الأولى أن تشخيصهم للمشكلة غير واقعي، وسعيهم لحلها غير عملي. فالمبالغة في شيطنة بعض مكونات الحياة السياسية السابقة ورموزها كانت أثراً من آثار الرؤية المثالية الساذجة. والرغبة في اجتثاث كامل الطبقة السياسية على غرار الثورتين الروسية والفرنسية هو إغراق في التفكير المثالي الساذج. فكانت النتيجة هزيمة للثورة التي خرجوا فيها ونجاحاً للثورة المضادة التي أطاحت بأحلام اليسار واليمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.