شعار قسم مدونات

مذاقُ النكهةِ الأخيرةِ من رمضان

blogs رمضان

كُلُّ ما في الكونِ معرّضٌ لناموس التغيير ولا بُد؛ كلمات الحب قد تفقدُ معناها، ووجوهٌ نألفها قد نملُّ لُقياها. خضرةُ الأشجار قد تكتسي صُفرَتَها، وسماؤنا الصافية قد تُغَطّى بليلِها بعد نهارها. لا شيءَ في الكونِ يدوم؛ تلكَ الرّوحُ في قعر النفس لديك قد تَفقِد معناها هي الأخرى، وقد تملَّ حتى أنتَ لُقياها؛ قد تكتسيها صفرةَ التعب، أو تُغطّيها عتمة الأكدار.

لا شيءَ في الكونِ يدوم؛ كلُّ الأشياء تَبلى؛ كلامك.. أيمانك.. صفاؤك.. أنتَ نفسكَ قد تَبلى. وكما تأتي المياه لتحيي كلّ الأشياء من حولك، كما تأتيك رسالة مفعمةٌ بالشوقُ فتحيي فيكَ مشاعر الروح والأحباب، كما تأتِ لمسات الجمال لتضيف إلى لوحاتنا معنى.. كذلك يأتيكَ رمضان؛ بل أحلى. 

أتاك رمضان فاتحاً أبواب الجنان، مغلّقاً أبواب النيران، طارداً لوَحَرِ الشيطان.. وكل ذلك كان من أجلي ومن أجلك.. كان الكون مبتهجٌ بزائره؛ حركة الملائكة الدؤوب.. رياح المغفرة المتسارِعة.. صكوك العتق والعفو.. كل ذلك كان يحدث من أجلي ومِن أجلك.. من أجل هذي الروح التي أنهكها تعبُ العام بأسره، من أجل أحزانها وخيبات آمالها. بل حتّى من أجل أفراحها وآمالها، من أجل كلّ طموح ينتابها.. من أجل كل معاني الجمال جاءنا رمضان. 

للمواقف عند الوداع أثرٌ في القلبِ، والساعات الأخيرة من اللقاءات المهمة تحمل ملخّص ما جاء فيما قبلها، ولرمضان في أيامه الأخير لذةٌ تشملُ كل ما جاء رمضان لأجله.. لرمضان في أيامه الأخيرةِ ليلةٌ تفوق ألف شهرٍ عدداً وعدّة وروحاً

عندما يأتي رمضان ويرحل دون أن يُغفَر لَك، فما حدث فعلياً أنَّ رمضان أتاك ورحل عنكَ دون أن تستشعر شيئاً منه.. دون أن تعود إلى نفسك، دون أن تعيد ترتيب أفكارك؟ إذا جاءك رمضان ورحل دون أن تستشعر هواءً نقياً جال في كل حنايا روحِك، دون أن تستشعر أن مشاعر الحب لديك عادت لتتحرّك من جديد. إذا جاءك رمضان ورحل دون أن تصيبكَ رعشة الولادة؛ فاعلم أن جزءاُ من رمضان ربما فاتك.. فاتَتكَ فرصة الحياة من جديد، فاتَتكَ فرصة أن تعيد لأيامك معانيها؛ أن تجدد نفسك وآمالك وأحبابك.

تنزّلَ في رمضان القرآن؛ ليخبركَ أن أجمل الأشياء قد تأتيك في لحظة صفاء مع ربّك فلا تضيعها على نفسك. في رمضان رسائلُ ستُلقَى في قلوبِ العبّاد، مشاعِرٌ ستُحيى في أرواح النُّسَاك، أفكارٌ ستوقَدُ في عقول المتَدبّرين فلا تضيعها على نفسك. في رمضان افتح نوافذ الحب والإيمان، ستَنشِق رمضان هواءً صافياً، احتسيه طمأنينةُ، وتفكّر فيه تفاعلاً؛ فرمضان هدية تأتيك كل عامٍ بحلّة جديدة.. بروحٍ تعيدكَ إليك؛ فتُعادَ بها إلى ربّك.. إلى كل خير في دربك..

يبقى مذاق المضغة الأخيرة من طعامك عالقاً بفمكَ أكثرَ من أي مضعٍ آخرى، تندَمُ إن تناولتَ في آخر الطعام مذاقاً لا تحبه وتشعرُ أنّك قد غيّرت نكهة فمكَ وأضعتَ ما سبقَ من لذة، وتبقى في المقابل مستمتعاً مدةً أطول إذا كان نهاية طعامِكَ شيءٌ من محبوباتك. للمواقف عند الوداع أثرٌ في القلبِ، والساعات الأخيرة من اللقاءات المهمة تحمل ملخّص ما جاء فيما قبلها، ولرمضان في أيامه الأخير لذةٌ تشملُ كل ما جاء رمضان لأجله.. لرمضان في أيامه الأخيرةِ ليلةٌ تفوق ألف شهرٍ عدداً وعدّة وروحاً، ليلةٌ تملكُ فيها أن تعيدَ قَدْرَ عمرك وقيمته إلى ما يجب أن يكون عليه. 

لكَ في ليالي رمضان الأخيرة نصيبٌ من عفو ومغفرة إذا صدقتَ الطلب، ولك في هذه الليالي حظاً من النعيم الذي يملك أن يعيد إحياء ما مات من عزائمك وما تخاذل من همتك، فابحث فيما تبقّى عمّا يجدد ما فُقِد وما بلى، فثمَّ في كل ليلةٍ عتقاء ومولودون وموصولون ومُجَدّدون فلا تبتئس. سيبقى مذاق النكهة الأخيرةِ من رمضان عالقاً في روحكَ طوالَ العام فتخيّر نكهةً لروحكَ فيها مناجاة لآحلامك ودعاءً بأوجاعك وقرارات تغيّر أيامك وأنفاسك. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.