شعار قسم مدونات

إلى هاجَر

blogs الكعبة المشرفة

أعَبَثٌ أن نُكَلِّمَ الموتى؟ أن نخبرهم بفيضٍ من شعورٍ يتملّكنا نحوهم، أو شيءٍ من خاطرٍ يجمعنا بهم؟ أعَبَثٌ أن نخُطَّ لهم حروفاً نرسلها، أو بعضَ كلماتٍ نبعثها إليهم؟ ألا زالوا يفقهون حديث الدنيا أم أنّ لعالمهم لغةٌ أخرى؟ ألا زالوا يعرفون ملامحَ هذي الأرض أم أننا سنحدثهم عن شيءٍ منسيّ؟ عبث أم لا، علّي لا أدري.. لكنّي أشتاقُ أن أسرَّ إليكِ جهراً بغيضٍ من عالمٍ أخذتيني إليه ربّما دونَ أن تدري. 

هناك.. في وادٍ غير ذي زرع كانت أفئدةٌ من الناس تهوي شوقاً، رأيتهم وكنتُ أحادثُكِ همساً: أترَينَهُم أنتِ أيا هاجَرُ أيضاً؟ هناك.. عند البيتِ الذي أشهَدَنا عليكِ، كانَ صوتكِ يرنُّ في قلبي: "آللهُ أمركَ بهذا؟"، "إذن لن يُضيّعنا". سعيتُ ونظري متجهٌ للأرض؛ أرمقُ ما تحتَ البلاطِ المُبرَّدِ رملاً شديدَ الحرِّ سعيتِ عليهِ موقنةً بأنّ الذي أمركِ لن يُضيّعَكِ.

تمَثّلتي لي في كلِّ أشواطي، وتراءت لي معكِ كلّ أيامي وأحلامي؛ تراءى لي هدفٌ سعيتُ إليهِ ولم أكمِل، ونيةٌ عقدتها ولم أفيها حقها، وعهداً قطعته وتوقفتُ من بعدِهِ تَعِبة. كنتُ وكأنّي أراكِ تطوينَ الأرضَ باحثةً عن ماءٍ في صحراءٍ لا ماءَ فيها؛ فعلمتُ أنّ اليقين يملكُ أن يريكَ الأشياء المفقودة. توقفتُ في السعي أريدُ أن ألمسَ ماء زمزم؛ أن أضعها على كتفي، على وجهي، على ما استطعتُ من جسدي.. ألِأجلِ هذا بقيت زمزم؟ ألِتذكّرنا بيقينٍ يجلبُ الماء لأرضٍ لا ماء فيها؟ يُروى أن زمزم لما شُرِبت له؛ أنّها شفاء سَقَمٍ وأنّها بركةٌ ودواء.. هي كذلك ما دامَت تبعثُ في قلبِ شاربها اليقينَ بربِّ الأرض والسماء. 

لن يضيع الله حلماً يرضاه، ولا دمعةً سُكِبَت، ولا دعوةً خرجت.. لن يضيّع الله فؤاداً رمى همّه على أعتاب مولاه، ولا عبداً دعاهُ وناجاه. "لن يضيّعنا الله"

كنتِ تبحثين أيا هاجرُ عن شيءٍ يسدُّ جوع الرضيع، وكان اللهُ ينظرُ لعملكِ ويخلّدهُ في هذا الكونِ بلا انتهاء.. كنتِ مؤمنةً بأنّ الله لا يَذَرُكِ بلا إجابة، كانَ الله يجعلُ قصتكِ لكلّ الناس إجابة. كانت أشواطكِ سبعاً، ومَن يدري علّ الماء لو لم ينبع بين يديك لازدادت أشواطكِ أكثر. سعت كلّ الأجيالِ من بعدكِ يا هاجرُ سبعاً تلبّي الله الذي أفاءَ بالخيرِ عليكِ. سعيتُ كما سعَوا وبقيَت روحي تُحادِثُكِ إلى ما بعدَ السبعِ أكثر فأكثر بأن:

يقينُكِ يا هاجرُ باتَ سعياً، وسعيكِ باتَ شعيرة. أتينا من كلِّ فجٍّ عميقٍ كما دعوتم، أتينا شعثاً غبراً، لا شيء لنا في هذا الواد نبتغي منهُ رزقاً أو أجراً إلّا الله. حاضرةٌ أنتِ يا هاجرُ في مكة، حاضرٌ سعيُ روحكِ والإقدام، حاضرٌ صوتُ إسماعيلَ إذ كانَ طفلاً يبكي، حاضرٌ حسنُ ظنّكِ بالله. 

أخجلُ أن أنهي يا هاجرُ سعيي وأن أعودَ من بعدهِ إلى أرضي فأفقد بالله ثقتي، أخجلُ من أن أسعى لخيرٍ يوماً فيثقل طول الدرب عليّ وأقف قبل أن أبلغَ ما أريد، أخجلُ من أن يقل منسوب اتكالي على الله أيا هاجر بعد أن أعود. كنتُ أسعى فخورةً بدينٍ يخلّد صنيع امرأة، فيجعلنا نسعى كسعيها نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً. وكان الفخر يجدّدُ فيّ يقيني ويشدُ من قواي وأزري بأنَ الله لن يضيعنا. 

لن يضيع حلماً يرضاه، ولا دمعةً سُكِبَت، ولا دعوةً خرجت.. لن يضيّع الله فؤاداً رمى همّه على أعتاب مولاه، ولا عبداً دعاهُ وناجاه. "لن يضيّعنا الله".. كان سعيكِ يخطُّ الجملة في روحي يقيناً، وكنت أحادثكِ وأعلمُ أنّ الكلام لا يذهبُ عبثاً بين الأرواح. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.