شعار قسم مدونات

ابن خلدون والتقليد

blogs - الشباب العربي
أجواء الاضطراب السياسي التي عاصرها ابن خلدون، أتاحت له الفهم لمتغيرات هذا الاضطراب ودراسته عن كثب، وكون عنده مَلكَة فكرية؛ عن علم العمران، وما يختص به هذا العلم من دراسة؛ كيفية قيام الدول ومناحي القوة فيها، ومواطن الضعف التي تؤدي في النهاية إلى انهيار تلك الدول، وجعل منه غواصاً في هذا الفن، متكلماً فيه بثقة، فالرجل قد عاصر انتهاء دولة الموحدين القوية، والتي كانت تبسط سيطرتها على المغرب الأقصى، كما أتاحت له رحلته إلى الأندلس، أن يبصر حجم الضعف الذي ألَمَ بالمسلمين هناك، وعجزهم عن دفع هجمات الممالك الصليبية التي تواترت على بلاد المسلمين في ذلك الوقت، وغير ذلك من الأحداث المتسارعة، التي وقعت في بلاد المسلمين عامة وعايشها ابن خلدون. 
 
وغير أن هذا لا ينفي أن الصواب لم يكن دائماً حليف الرجل في كل ما بنى عليه رؤيته في هذا العلم، فلا ينفي أيضا أنه قد أصاب المحزَّ ونفذ إلى أعماق النفس البشرية حين وصف بعض أحوالها بفعل ما يطرأ عليه تلكم النفس من متغيرات، وما تحكمها من عادات، وما يؤثر فيها من ارتباط. فانظر إليه حين يصف حال المغلوب، وانبهاره بالغالب، وكأني به يعيش عصرنا؛ فيصف أحوالنا بدقة وبراعة، يعجز عن وصفها الكثير ممن أوتي علماً وحكمة في عصرنا هذا، ومع أنه يصف ما هو موصوف؛ بسنن الأمم، وأحوال الدول منذ خلق الله آدم عليه السلام.

إلا أن الرجل جاء بوصف دقيق، حري بمن هو مثلهُ أن يأتي بمثلهِ، فانظر إلى قوله في مقدمته حين: "المغلوب مولع أبداً بالغالب؛ في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده". وضرب مثلا لذلك بما أبصره بعينه ولامسه بحسه في بلاد الأندلس حين زارها فيقول: "كما هو في بلاد الأندلس لهذا العهد -عصره الذي عايشه- مع أمم الجلالقة (النصارى)؛ فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر عن ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله".

لا تجد من هذا التقليد محصلة، غير ما آل إليه مجتمعنا من جراء هذا التقليد، من التفسخ والتشرذم، والتنصل من المسؤوليات الاجتماعية بدعوى الحرية والانفتاح، حتى صار المجتمع غريباً عن نفسه.

والناظر في أحوال المسلمين الآن يجد أن الرجل قد سبق بالقول إلى ما هو واقع الآن، فحالنا يقول؛ إننا لا نشعر أن غُلبنا كان نتيجة لقوة الخصم، وإنما بسبب حضارته وثقافته وعاداته وتقاليده، ومن هنا بدأ التفكير في التقليد، ظناً منا أن التقليد سيجعلنا أقوياء كما هو حال غالبنا، وهذا ما وقعنا فيه، وكذا كل الشعوب الإسلامية، أمام الاحتلال الغربي، وانبهرنا بثقافته وملبسه ومأكله ومشربه، ويظهر هذا النوع من التقليد واضحاً جليا، في البلاد التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، وقِسّ على ذلك ما كان يطالب به بعض المفكرين والأدباء، أمثال قاسم أمين وطه حسين، وغيرهما من الجيل الذي تأثر بثقافة هذا المحتل، من وجوب تقليد الغرب.

ولم يكن لذلك سبب هو أقرب مما أشار إليه ابن خلدون بقوله: "والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بما وقر عندها في تعظيمه، أو لِما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب…".
 
وهذا ما استطعنا أن نقنع به أنفسنا ونثبته في عقولنا، فقلما تجد الآن من لا يتحاكى عن كمال الحضارة الغربية وفنونها وثقافتها المتنوعة، ولا تجد من هو أكثر خوضا في ذلك إلا من ينطبق عليهم قول بن خلدون، ويرون أن غلبة الغالب إنما هي لكماله، وأمثال هؤلاء هم كثر، وسيتواجدون على الدوام.

ولا تجد من هذا التقليد محصلة، غير ما آل إليه مجتمعنا من جراء هذا التقليد، من التفسخ والتشرذم، والتنصل من المسؤوليات الاجتماعية بدعوى الحرية والانفتاح، حتى صار المجتمع غريباً عن نفسه، مثقلاً بأوهام التقدم والرقي، غارقاً في تقليد السراب، والأمر لله

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.