شعار قسم مدونات

لو أن أغنياء الصومال أدوا زكاة أموالهم

مدونات - فقراء الصومال

في الثمانينات من القرن الماضي شرفت بحضور مواعظ كان يلقيها فضيلة الشيخ العلامة مُحّمد عبدالغني سراج المصري في المسجد الذي كان يخطب فيه فضيلة العلامة خطيب العاصمة الصومالية الشيخ محمد نور قوي في حارة شبس في مقديشو، وكذا في مقر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية في الصومال، وقد أعطي الرجل فصاحة وبلاغة وفهما عميقا لما يقوله، ومن الكلمات العظيمة التي قالها هذا العالم الفذ والتي ما زالت محفورة في ذاكرتي ولم أنسها منذ ذلك اليوم مقولته "لو أن أغنياء وتجّار مدينة مقديشو -عاصمة الصومال-، أدوا زكاة أموالهم، لما وُجد فَقير أو محتاج أو سائل في شوارع مقديشو".
 

قلت: لم أكن أفهم جيدا بمذلول ومرامي هذه الكلمة العظيمة، لأَنِّي كنت شابا يافعا في بداية الطريق ولم تُتَح له الفرصة بَعْد لقراءة ودراسة وفهم مقاصد الشريعة الكلية في المأمورات والمنهيات، وإن كنت أعلم بأن الزكاة من أركان الإسلام الخمسة، ومازال الناس يدفعون زكاة أموالهم، وإن شابها شيء من الخطأ وسوء الفهم في توزيعها وإيصالها مستحقيها الحقيقيين.
 

ولم يكن كلام الشيخ ترفا عقليا أو دردشة فكرية، بل كان عين الحقيقة الماثلة للعيان، فَلَو حاول شخص ما للتأكد من صحة مقولة الشيخ، ثم ذهب إلى سوقَي حَمروينه وعَيل غَاب مثلا، أو تجول ما بين تذكار طَغَحتور إلى مبنى البرلمان القديم، ثم يـَمَم وجهه صوب مسجد مَرواس مرورا بساحة سوق الذهب -وهذه الأماكن تقع معظمها في الحي القديم من العاصمة ويوجد فيها المقرات الرسمية للدولة ومكاتب كبار الأغنياء والتجار- فضلا عن باقي أحياء وأسواق مقديشو الكثيرة، لوجد أفواجا من المعوزين والمحتاجين المفترشين على الأرصفة والشوارع والساحات العامة، وهذا النموذج يمثل جزا يسيرا من مأساة كبيرة يعيشها هذا الشعب المقهور.
 

من الأهداف السامية التي شرعت الزكاة من أجلها تقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتحمل الأغنياء والتجار جزءا من مسؤوليتهم تجاه أمتهم وإخوانهم في الدين والمعتقد، وأن لا ينحصر المال والثروة تحت تصرف عدد قليل من الناس دون غيرهم.

وإذا نظرنا إلى أحوال البلد الاقتصادية والمعيشية في ذلك الوقت كان الناس على ثلاث طبقات:
الأولى: طبقة مترفة تموت من أجل التخمة، ويتصدر بهذا المجموعة كبار مسؤولي الدولة من مدنيين وعسكريين، استحوذوا مقدرات الدولة من غير حياء ولا خجل، ثم يليهم كبار رجال الأعمال والتجار والأغنياء.

الثانية: الطبقة الوسطى من موظفي الحكومة من الأطباء والمدرسين وأساتذة الجامعات.. إلخ، وإن كانت رواتبهم لا تسدّ حاجاتهم إلا أنهم كانوا أفضل حالا من الطبقة الثالثة.

الثالثة: الطبقة الكادحة: وتمثل هذه الطبقة السواد الأعظم من الشعب الصومالي، وتكدح من أجل لقمة العيش فقط لا غير، ومع ذلك لا تجد سبيلا إلى الوصول إليها، ولا تمثل شيئا بالنسبة في أولويات الحكومة المسؤولة عن شعبها.
 

وبعد سقوط الحكومة المركزية قبل ربع قرن من الآن، وإن كان البلد سقط إداريا وتنظيميا، وتحول إلى كانتونات قَبلية، إلا أن الوضع الاقتصادي أفضل بكثير مما كان عليه قبل عشرين سنة، مع عدم توفر الأمن الذي يعتمد الاقتصاد عليه كليا، قد ظهرت ونمت وتوسعت مدن وبلدات لم تكن في الحسبان، كما وصلت التجارة في كل مكان من طول وعرض البلد، وتطور العمران في ربوع الصومال حتى أضحت العاصمة الصومالية مقديشو، ثاني أسرع مدينة في العالم في التمدد والتوسع، بل كل مدينة أو قرية صومالية تضاعف عدد سكانها وتوسع عمرانها، ولم يأت هذا عن فراغ بل بسبب الطفرة الاقتصادية التي يعيشها البلد -مع الإشارة بأن هذا النمو الاقتصادي لا يخضع للنظام الدولي في التصنيف، لأن البلد لم يتعاف بعد من كبوته السياسية والإدارية والتي هي شرط في التقارير الدولية لقياس أحوال البلدان الاقتصادية.
 

وقد تأسس في الصومال شركات عابرة للقارات، وتمكن كثير من التجار في تنويع وتوسيع تجاراتهم، كما صعد جيل جديد من رجال الأعمال المنتشرين في داخل الصومال وخارجه، بل وصل الربح التجاري والفوائد السنوية للشركات والأفراد إلى أرقام مذهلة لم تكن معهودة من قبل، لأن المؤسسات التجارية الصومالية لا تتحمل أي التزامات مادية تجاه المجتمع أو الدولة كما تفعل قريناتها في العالم، بل ما تدفعه تجاه ذلك لا يعدو كونه فتاتا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولأجل ذلك تنمو تجارتهم وتتضاعف أرباحهم بسرعة فائقة.

وبعد سقوط الدولة الصومالية وتهدم بنيانها الإداري، وفقدان كثير من موظفي الدولة من أصحاب الدخل المحدود وظائفهم الرسمية وسيطرة المؤسسات الخاصة من شركات وأفراد المرافق العامة التي كانت بيد الحكومة من مطارات وموانئ بحرية ومراكز حدودية ومقرات وزارات ووكالات ومرافق تعليمية وصحية، وتحويلها إلى مواقع تدر عليهم بالربح والفائدة دون رقيب ولا حسيب.
 

وعلى إثر هذا الواقع البائس، انقسم المجتمع إلى فئتين:
– فئة قليلة من التجار ورجال الأعمال الذين يملكون كل شيء، وأصبحت حياتهم تشبه حياة زمن الجواري.
– وفئة مسحوقة من غالبية الشعب المقهور لا تملك شيئا، صدّت الأبواب أمامها، لا تجد مكان عمل، ولا موضع رعاية، فأصبحت تتسول أمام مستودعات التجار، أو تنتظر المؤاساة من الهيئات الخيرية، فإن لم تجد من يمد لها يد العون والمساعدة تبيت طاوية لا تجد ما تسدّ رمقها.
 

التجار والأغنياء أهل خير وفضل وإحسان، ولا أظن أنهم يتأففون من أداء ما أوجب الله تعالى عليهم من حق الفقراء والمساكين، ولكن الذي ينقصهم هو إدارة أموال الزكاة بالوجه الصحيح، حيث يسود الارتجال وعدم التخطيط المنظم.

ومنذ سنوات بدأ النظام الصومالي يستعيد عافيته ويؤسس من جديد في إعادة هيكلة مؤسساته، ووضع يده على بعض مرافق الدولة التي كانت تحت تصرف الأفراد والتجار، ولكن الوضع لا يزال يراوح مكانه من غير تغيير يذكر، بل هناك بصيص أمل في المدى البعيد إذا أحسنت الحكومة في تعاطى الشأن العام بصورة صحيحة تعطى الأولية في تحقيق المصلحة العامة على الخاصة.
 

ومن الأهداف السامية التي شرعت الزكاة من أجلها تقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتحمل الأغنياء والتجار جزءا من مسؤوليتهم تجاه أمتهم وإخوانهم في الدين والمعتقد، وأن لا ينحصر المال والثروة تحت تصرف عدد قليل من الناس دون غيرهم، فأمر أصحاب اليَسار بدفع نسبة قليلة من أموالهم إلى مستحقي الزكاة، لتملأ المحبة والوئام والتراحم بين الأغنياء والفقراء بدل البغض والتحاسد والأنانية، وليسود الأمن والأمان بين بني الإنسان، فضلا عن كون الزكاة تطهيرا وتنمية للمال، وامتثالا لأوامر المنعم الأعلى سبحانه وتعالى.
 

والتجار والأغنياء أهل خير وفضل وإحسان، ولا أظن أنهم يتأففون من أداء ما أوجب الله تعالى عليهم من حق الفقراء والمساكين، ولكن الذي ينقصهم هو إدارة أموال الزكاة بالوجه الصحيح، حيث يسود الارتجال وعدم التخطيط المنظم، أو بالأحرى بعدم وجود هيئة مستقلة تتولى بتنظيم أمور الزكاة بالوجه المطلوب، وتكون سفير خير وبركة بين الأغنياء ومستحقي الزكاة.
 

وأخيرا، الأغنياء والتجار ورجال الأعمال الصوماليون عليهم مسؤولية كبيرة تجاه أمتهم، ولذا يجب عليهم أداء زكاة أموالهم بالوجه المطلوب، ليستغني الفقراء عن غيرهم، لأنهم لو فعلوا ذلك لما وجد فقير أو محتاج في ربوع الصومال قاطبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.