شعار قسم مدونات

شاهد على الحرب

مدونات، بشار

عندما تمنحك مواطنتك حق الوقوع تحت رحمة تفجيرٍ مباغت وتقع ضحية أنظمة ديكتاتورية وتغادر الأرض حاملاً مظلمتك لتعرضها على رب السماء وهو العدل، هذا يعني أنك إنتهيت من صولات وجولات المطالبة والنزاع على أبسط الحقوق " الأمان ".
 

أما عندما تشهد سقوط أبناء جلدتك وترابك وتناثرهم أمامك صغاراً وشيباً ويكون دورك محصوراً بنقل الحدث وفي بضع ثوانٍ تسقط بها قذيفة على المارة بين معابر الإتفاق والهلاك وتراك تجردت من "مهنيتك" وهرعت لإلتقاط الجثث والمصابين بدلاً من التقاط الصورة والحدث فاعلم بأنك إنتقلت كما هم إلى السماء.

مشاهد الصحافيين في الميدان وهم يتدافعون لإنقاذ أطفال ونساء وشيوخ ورجال الراشدين في حلب على قناة الجزيرة على أثر تفجير حافلاتهم وهي تقلهم في إتفاق الأربع دول المبرم بين المعارضة والنظام يُعلِمُنا بأن الموت له اقدام وعيون وصوت.
 

ما بالنا بجنود الميدان الإعلامي وهم يحملون أطفالاً ممزقة يتراكضون بهم بحثاً عن مأوى يمنحهم حق البقاء على قيد الحياة؟ ما شعرته وأنا أستمع لشهادتهم على الحرب كان أشد وقعاً من المآساة ذاتها.

انتظرت كثيراً لأرى وأسمع حديث صحفيّ الميدان الحربي بعد أن تلبدت الشاشة حيث التغطية المباشرة بالدماء والوجوه الفزعة وصراخ المصور وبكاءه هو وزملائه الذين لم يستطيعوا أن يكونوا إلا "آخر الحلول" لإنقاذ ما تبقى من الضحايا.
 

يقول أحدهم منذ بداية الأزمة السورية ونحن نعاصر هذه المجازر التي فتكت بأعصابنا وغيرت طباعنا وقلبت قلوبنا إلى حد كبير، وهم المدركين للخطر الذي يزاولونه بهذه المهمة الصحفية الحربية. ولا أعتقد بأنهم مجبرين على البقاء ولكنهم كما غيرهم من "المواطنين" يتشبثون بحق الأرض تحت أي ذريعة يرونها مناسبة للبقاء وربما فقدوا معنى "الأمان" خارج حدود الألم والنزيف السوري.
 

هذا الطريق المُعبد بالشقاء أصبح بوصلة الطريق التي لا تحيد عن الشتات والتغريبة السورية، كثيرةٌ هي كلماتنا فكلما كبُر الألم فينا نحن الجالسون خلف الشاشات ترانا نهرع لشاشة بيضاء فارغة نفرغ بها الحسرة ونعيد مشاهدتهم ألف مرة، وكأننا نعاقب التبلد فينا.
 

ونرسل الكلمات ليقرأها المارون من هنا… ومنهم من يشيحون النظر ومنهم من يتأوه على أحوالنا وآخرون يكتفون بالصمت… أما هم فلا أعلم حجم الألم بهم ولا أستطيع وصفه ولو كان ألمهم وقهرهم يقاس لولد قنبلة حريةٍ تفتك بالغاصبين المتآمرين على دماء سوريا.
 

تؤرقني ليلةً يصاحبها حمى لأحد أبنائي وهم في كنفي وبين يداي وأركان المنزل صامدةَ ومحيطةً بنا وتوحي بالأمان والطبيب المناوب على مقربة اتصال هاتفي فقط ومع ذلك أشعر بالكرب والخوف وأنا أحتضنهم وهم يتدلون من أثر الحمى.
 

فما بالنا بجنود الميدان الإعلامي .. وهم يحملون أطفالاً ممزقة يتراكضون بهم بحثاً عن مأوى يمنحهم حق البقاء على قيد الحياة؟ ما شعرته وأنا أستمع لشهادتهم على الحرب كان أشد وقعاً من المآساة ذاتها!
 

ربما لأني أعلم بأن الموت أنواع، خيره تحت التراب وشره مصاحبته كل يوم… والموت ظاهرة إنسانية وجدت مع الحياة نفسها لولا عبث المتآمرين لما جزعت القلوب من سنة الحياة… ارحموا قلوبهم وقلوبنا… ما عدنا نطيق مع الألم صبراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.