شعار قسم مدونات

الشرير أردوغان..

blogs أردوغان

تابع الرأي العام على مدى أسابيع، الانشغال الكبير للغرب والشرق بالاستفتاء التركي، وتعددت التعليقات والقراءات الاستباقية، التي نبشت حتى في نوايا الرئيس التركي.. لكن هل يتعلق الأمر فعلا بحرص عربي/غربي/دولي على الديموقراطية؟ لا يحتاج الأمر إلى تحليل عميق.  فالغرب عمل عبر التاريخ المعاصر، على مصادرة التطلعات الديموقراطية في هذه المنطقة -وكان آخرها الإجهاز على الآمال التي أطلت مع الربيع العربي- بل دعم -ولازال- ديكتاتوريات دموية، واستقبل حكاما "فاشيين" بحفاوة بالغة، مع أن أيديهم ملطخة بدماء شعوبهم.

أما بالنسبة للعرب، فنجاح التجربة التركية يعني مزيدا من الصداع، ومزيدا من قرع طبول الديموقراطية، في بيئة قريبة من البيئة العربية، بما لا يدع مجالا لتكرار نظرية "الديموقراطية لا تتماشى مع طبيعتنا". ولا ننتظر من الأنظمة العربية "فرحا" بنجاح تركيا في الانتقال من عهد إلى عهد، فقد رأينا كيف أن هذه الأنظمة اقتطعت مبالغ ضخمة من أموال شعوبها لتصرفها ببذخ وبلا حساب على الانقلابات الدموية، ولدعم الثورة المضادة، ويكفي اليوم النظر إلى خريطة المنطقة للوقوف على حجم الدمار الذي ألحقه المال العربي بـ "الوطن العربي" منذ سنة 2011.

نفس الشيء بالنسبة لإيران، التي لن تكون سعيدة فعلا بتحول تركيا إلى نقطة استقطاب "سني" يعطل التطلعات التوسعية لنظام الملالي الشيعي..  لكن، ما يتطلب وقفة فعلا، هو موقف الغربي الذي لا ينفك عن تسويق شعارات الديموقراطية، مع أن أفعاله تكذب أقواله. ولا شك أن هناك اليوم ألف سؤال وسؤال يطرح حول الموقف الغربي الملتبس من التجربة التركية. فمنذ أن رسخ حزب العدالة والتنمية التركي أقدامه في هذا البلد "العلماني"، ومنذ أن تأكد أن الأحزاب التقليدية لن تستطيع مجاراته، لوحظ بعض التململ في العواصم الغربية سرعان ما تحول إلى تبرم ثم إلى تأفف، إلى أن وصلت الأمور ذروتها بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي يتأكد يوما بعد يوم أنها ربما كانت مؤامرة متعددة الأطراف، وبأبعاد دولية تتعدى قدرات "الدرويش" غولن الذي ربما أريد له أن يلعب دور "المرشد الروحي" في هذه العملية.

 

الغرب قارئ جيد للتاريخ، وهو يدرك إن الإسلام -تحديدا- محرك فعال للنهضة والتنمية.. والتجربة التركية ساهمت بشكل أو بآخر في إفشال المشروع العربي/الغربي القائم على تقديم القاعدة وداعش وما يشبههما كوجه وحيد للإسلام

منذ تلك اللحظة تغير الموقف الغربي، فلم يعد الحديث عن جريمة الانقلاب، بل عن حقوق الانقلابين، وهو تناقض يصعب فهمه خاصة بعد صدوره عن دول وحكومات لطالما اقتعدت كرسي الاستاذية وألقت محاضرات تمجيد الديموقراطية، ونظمت قصائد في هجاء الديكتاتورية وما يقود إليها من انقلابات عسكرية..

الغرب كان صريحا أكثر، من خلال دعمه المادي والمعنوي للنظام الحالي في مصر، الذي لو تأكدت ولو 1 في المائة من الاتهامات الموجهة إليه في مجال خرق حقوق الإنسان، لكانت كارثة.. من الصعب تصديق أن الغرب حريص على حقوق انقلابين كانوا يخططون لقتل رئيس منتخب، وتصفية مؤسسات مدنية شرعية، وكانوا سيقودون دولة وشعبا نحو مصير مجهول.. فالمشكلة الحقيقية لهذا الغرب هي مع النموذج التركي الذي لم يكن متوقعا أن يصمد وتطور، وأن ينتصر على "مؤامرة" ذات طابع دولي..

هل يمكن لوم الحكومة التركية إن هي استغلت فشل الانقلاب لتطهير الإدارة من الانقلابيين؟ سؤال لا يختلف على الإجابة عليه أحد.. ففي دول أخرى كان بالإمكان أن تجري الدماء أنهارا، وأن تنفذ إعدامات في الشوارع دون محاكمات.. دون أن يتأفف الغرب أو يعبر عن انزعاجه.. لكن في حالة تركيا الأمر مختلف تماما.. وهذا ما يفسر التوافق الغربي على القيام بإجراءات غير مسبوقة في المجال الديبلوماسي.. على هامش الاستفتاء الأخير، طالت وزراء ومسؤولين سامين في الدولة التركية، بلغت درجة الإهانة.. وتحولت معها دول أوروبية عريقة إلى ما هو أدنى من دول الموز التي تدير علاقاتها الخارجية تبعا لمزاجية النظام، وليس بناء على حسابات الربح والخسارة. 

التشنج الغربي إزاء تركيا أردوغان، له سبب واحد يتمثل في أن الرجل نجح في إيقاظ المارد الذي كان محبوسا في القمقم لأكثر من 90 سنة، وفي تذكير الأتراك بأنهم شعب عريق له تاريخ.. وأن بلدهم ليس "رجلا مريضا"، ولم يخلق ليعيش على الهامش.. أو كتابع.. وهو الوضع الذي تستمتع به الأنظمة العربية، التي تكره التاريخ، وتزوره وتصادره، حتى لا يتحول إلى حجر يحرك المياه الراكدة.. 

هذا هو التفسير المنطقي والوحيد للحملة الحالية ضد تركيا.. وهو تفسير زكته المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعتبر فريدة من نوعها، ليس لأنها استهدفت نظاما منتخبا بطريقة ديموقراطية، ومن طرف أغلبية الشعب.. بل نظاما حقق معجزة اقتصادية بكل ما في الكلمة من معنى ونقل البلد من حال إلى حال على كافة المستويات.. 

الغرب قارئ جيد للتاريخ، وهو يدرك إن الإسلام -تحديدا- محرك فعال للنهضة والتنمية.. والتجربة التركية ساهمت بشكل أو بآخر في إفشال المشروع العربي/الغربي القائم على تقديم القاعدة وداعش وما يشبههما كوجه وحيد للإسلام.. فالأنظمة العربية تستريح أكثر مع "النسخة" الداعشية، لأنها تساعدها في حربها على الديموقراطية، التي تأخذ أحيانا عنوان الحرب على "الإرهاب".. والأنظمة الغربية تدرك أكثر من غيرها "مخاطر" تفشي عدوى الديموقراطية في "الشرق الاوسط"، ولذلك لن يهدأ لها بال حتى تقضي على هذا "الفيروس" الخطير بشكل نهائي..
 

مشكلة العرب، الذين يفضلون موقع المفعول به على الفاعل، ودور المجرور والمضاف، أنهم يكرهون التاريخ وينسون أن عجلته تدور دون توقف، وأن هناك من يدور معها، وهناك من تدور عليه، وهناك من يسعى للتحكم في دورانها

ففي عز حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، المفتوحة على مجاهل كثيرة بسبب السيناريوهات المرعبة المنتظرة، افتتحت نشرات الأخبار يوم الأحد الماضي في معظم القنوات الفرنسية العمومية، بموضوع الاستفتاء التركي، وتم ذرف كثير من الدموع على الحرية والديموقراطية والعلمانية.. وذلك تتويجا لشهور وشهور من محاولة شيطنة أردوغان ووصفه بـ "السلطان"، مع ما تعنيه هذه الكلمة في المخيال الجمعي والتاريخي الأوروبي.. مع أن صاحب الحق الوحيد في تقرير مصير تركيا هو الشعب التركي.. 

إن هذا المشهد يختزل الكثير من الكلام. فالحرب هي ضد المشروع الذي يمكن أن يتحول إلى نموذج.. ولذلك علينا توقع تعرض تركيا لكثير من الهزات الداخلية، خاصة إذا قبلت بعض الجهات تأجير خدماتها للخارج الذي يريد فرض "حجر صحي" حتى لا تنتقل العدوى إلى المحيط..

مشكلة العرب، الذين يفضلون موقع المفعول به على الفاعل، ودور المجرور والمضاف، أنهم يكرهون التاريخ وينسون أن عجلته تدور دون توقف، وأن هناك من يدور معها، وهناك من تدور عليه، وهناك من يسعى للتحكم في دورانها.. بعض "طويلي العمر" لم يسبق لهم أن صوتوا ولن يصوتوا.. يسخرون من الفارق بين نعم ولا.. بعض "الهائمين حبا" في رقم التسعات الأربع.. يسخرون من رقم 51.4 في المائة..

وإذا كانت النفوس كبارا .. تعبت في مرادها الاجسام

وإذا كانت النفوس صغارا .. سعدت أن تدوسها الأقدام

مع خالص الاعتذار للمتنبي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.