هاتفني صاحبي الذي لم ألتقيه منذ مدة، فتواعدننا أن نلتقي مساء بالمقهى، حضر صاحبي في الموعد فتبادلنا الأخبار لبضع دقائق معدودات، ثم أسدل الستار بيننا لينكفئ كل منا على هاتفه الذكي، لنكتفي بتمتمات ودمدمات بين الفينة والأخرى… لقد كان الجالسون في المقهى أيضا منشغلون بهواتفهم وأشعال السجائر، لا أحد يبال بالذي يحيط به وبالذي يحدث، أحسست بغشاوة ملقاة على الجميع عزلتهم عن هذا الواقع.
يلزمنا اليوم حكمة وتبصر وعقلانية في استعمال واستخدام هذه المواقع الاجتماعية، يلزمنا اليوم أيضا أن نخرج ونقطع أوصال هذه الانعزالية عن الواقع |
هكذا كانت الصورة وكان المشهد المتواتر في كل مكان، استلاب لأدميتنا وكينونتنا، وتحولنا إلى كائنات إلكترونية، نتنفس مع كل نقرة على الفيسبوك أو تويتر، ونبتهج مع ارتفاع أسهم الاعجابات على تدوينة ومنشور على الجدار الازرق. يبدو أنه لا قدرة لنا على الابتعاد والتفريط في هواتفنا التي تربطنا بعالم غير عالمنا الحقيقي وما يعتمل فيه من حقائق لا طاقة لنا عليها.
لعلنا لا يمكن أن ننكر الدور المهم الذي لعبه هذا العالم الافتراضي زمن ثورات الربيع العربي، وما يلعبه اليوم في كشف حجب الفساد، وفضح كل الاختلالات في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي، وتقريب وجهات النظر بين مختلف الشعوب، و تجاوز والقفز على مفهوم الدولة القطرية، وتكسير المتاريس وحواجز العبور، وتسهيل عمليات التواصل. لكن الاشكالية أن نفرط في الاستخدام، ونقطن فيه، وندمن عليه لساعات طوال، إنني لا أجد تفسيرا وأستغرب، في بعض الذين ينعتون ويسمون أنفسهم مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنهم بعض الباحثين والمثقفين، لا يبرحون مواقع التواصل الاجتماعي، وينسون تغذية العقل بالقراءة والمطالعة والانكباب على البحث العلمي وإنتاج المعرفة، أليس من باب أولى السباحة في بحر المؤلفات والاغتناء من رصيدها الفكري واللغوي، بدلا من السباحة أربعة وعشرون ساعة في بحر مواقع التواصل الاجتماعي.
تدوينات حماسية، ومواقف سريعة عاجلة، وإنتاج خطاب يغرق في الشعبوية والهزل والسخرية، ورؤى من غير تعمق وتبصر، يعج بها العالم الافتراضي، كلها تنم عن العجلة في إبداء المواقف والاراء لحصد عدد كبير من الاعجبات والتعليقات، لكن المشكل أن تصدر عن ذوي العقول المتعلمة المثقفة، التي من المفروض أن تساعد في عقلنة استعماله.
يلزمنا اليوم حكمة وتبصر وعقلانية في استعمال واستخدام هذه المواقع الاجتماعية، يلزمنا اليوم أيضا أن نخرج ونقطع أوصال هذه الانعزالية عن الواقع، ونرسم لذوتنا وأنفسنا مسار قابلا للقراءة والتهافت على المعرفة والابتكار، وليس ذواتا تبحر على مدار الساعة واليوم في عالم افتراضي بدون نتيجة وتحقيق هدف.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.