شعار قسم مدونات

ساعة بجوار الأزهر

blogs - الأزهر
بدأ الأمر أنني احتجت الذهاب إلى منطقة الأزهر لأغراض تجارية لا علاقة لها مطلقا بالتنزه أو الزيارة التاريخية أو أي شيء يحمل عمقا ثقافيا على الإطلاق.. كررت على نفسي كثيرا أن يومي مشغول وأنني أحتاج أن أقضي ما أريد لأعود إلى المنزل في وقت وجيز في محاولة للحاق بكل ما أريد أن أفعل. حملت حقيبتي على ظهري كأعضاء فريق الكشافة وأخذت عهدا على نفسي أني لن أنجذب كالمجاذيب لأي أثر، فأنا أعلم يقينا في نفسي أنني لو تركت لنفسي البراح فلن أعود على الأرجح، ولن توقفني قلة خبرتي بالمكان، وأن هذه أول مرة أذهب فيها إلى الأزهر والغورية والحسين بمفردي. أعلم أن جرأتي ستغلب قلة معرفتي، لذا حاولت السيطرة على نفسي أو هكذا تمنيت أو خيل إلي.

حسنا، سأذهب بمفردي، كل ما أريد نصف ساعة على الأكثر، سيارة أجرة تتسع بالكاد لسبعة أفراد ستوصلني حتى مشارف الغورية، جلست في مقعد السيارة الأخير، وجلست أمامي فتاة وتلك ميزة تستحق الحمد، لأني ما وجدت مسجدا ذو طراز فاطمي لا أعرف اسمه حتى وجدتني أقفز تقريبا إلى شباك الفتاة لأرى المسجد كاملا بشكل أفضل. لا أبالغ إن قلت إني أرى الأثر بلا أشخاص حوله..

رأيت التاريخ حينها كرجل بهي الجمال يرتدي زيا مهلهلا يقبع على جبل من الركام ويدخِّن النرجيلة، ويبدو عليه أنه غير محترف للتدخين، ينظر إلينا باستياء عظيم ويضحك.

بشكل تلقائي يتصاغر الناس في نظري، فكأني أرى الأثر كيفما بني في زمنه الأول.. لم يوقفني شيء حتى استفقت فجأة على ذعر الفتاة الجالسة في مقعدها من تصرفي اللامنطقي تماما في نظرها.. لم أعتذر، كأنه كان تصرفا طبيعيا جدا، اختفى المسجد أمام ناظري. تنفست نفسا أن هذه أول خيبة في رحلتي، كم أقسمت لنفسي أن يمر أي أثر مهما عظم علي مرور الكرام.

إن كنت تعرف تاريخ المنطقة أو تجهله، إن كنت محبا للتاريخ أو لا، منتميا إليه، أكاد أجزم لك أن هذا المكان سيسحرك كأن المكان يهمس في أذنك أني أنا ساحر، وأنت مسافر فيّ عبر الزمن.. أصدق حديث الصوفية أن لكل مكان ذكر ما يردده، إن كان ذلك صحيحا فتلك المنطقة تهتف باسم الله.

تختلف روح المكان عن روح القاهرة ذاتها، لا يرى أبناء الأقاليم مثلي القاهرة كمكان دافئ أو يحمل أي قدر من الود، لكن هذا المكان تحديدا يحتويني، يخبرني أنه أكثر مكان أنتمي إليه، يراودني بحلم كبير أن أكتب يوما أطروحة أو كتابا عن الفن الإسلامي، تراكيبه ومفرداته وفكرته الأصيلة أو معجزته الأصلية في فكرة المنع والإباحة، فلو لم يعتبر المسلمون أن النحت والتجسيد حراما، لكانوا مقلدين للإغريق واليونان، ولكن ذلك لم يقيّد إبداعهم بل حرره، منعت عنهم الكثير من الأدوات فخلقوا هم بأدوات أبسط فنا أعمق.. ببضع حروف وأشكال هندسية بسيطة ومجموعة ألوان؛ صنعوا فنا وزخرفة وطابعا أحيوا به الأحجار.

وصلت السيارة إلى مبتغاي، استوقفت السائق ومشيت أربع خطوات، مازلت أذكرهم، لم أزد عليهم خطوة واحدة، تسمرت وتطلعت بأعين مشدوهة فتحتا على اتساعهما، وبروح كأنما غادرتني إلى ملكوت أعلى، حتما أني لم أملك صوتي وأنا أهتف "أووه. إيه التحفة دي"، هزتني امرأة وهي تحاول أن تقطع الطريق، اكتشفت أني توقفت في أسوأ مكان يمكن لي أن أقف فيه مطلقا، وأن لا بد للمارة أن يصطدموا بي في طريقهم. التفت إلى السيدة وحمدا لله أني ألجمت لساني فلم أشاركها دهشتي بالمبنى الشامخ الذي يواجهني الآن والذي أكاد أخر على أعتابه وأقول والله لو قضيت يومي أنظر إلى تفاصيل بهائه ما ضاع يومي.

أي عبث وأي فوضى يحملها مكان بهذه الروعة، أي تشوه وأي تلوث، لو رأى بناة تلك البنايات الرائعة ما سنلحقه بها من قبح لما بنوها بهذا القدر من الجمال.

الغورية تلك هي وكالة السلطان الغوري، وخلف ظهري مسجده، كأنما ندهتني نداهتي الخاصة، ظللت أبحث عن أفضل موقع يتيح لي استطلاع جمال المكان كاملا غير منقوص، تسمرت وأنا أحاول أن أقرأ المكتوب على سور الغورية، تنبهت لبائع يشير إلي بعدما ظن أني أحدق فيه أو في بضاعته، وأنه ربما منعني حيائي من الاستفسار، وهنا أدركت الفاجعة الكبرى بالنسبة إلي. على ذلك السور العظيم مباشرة علقت بمسامير بعض "المانيكانات" تحمل أغراضا نسائية، لم يدهشني عرضها بذلك الشكل عيانا بيانا بما يعارض تحفظي، ولكني تألمت لعظمة السور وضحكت ضحكة مريرة مبتسرة.

لقد رأيت التاريخ حينها لم أره مجازا.. أنا رأيته فعلا كرجل بهي الجمال يرتدي زيا مهلهلا يقبع على جبل من الركام ويدخن النرجيلة، ويبدو عليه أنه غير محترف للتدخين، ينظر إلينا باستياء عظيم ويضحك بهستيريا تامة. لم أصور أي شيء رغم حاجتي لذلك، أنا أغار من الكاميرا أن تنتقص أو تختزل من عيني شيئا. توقفت قرابة الخمس دقائق أتذكر أي غرض أريد أن أشتري. أو أتذكر سبب وجودي هنا غير التحديق.

تذكرت أخيرا، توجهت إلى الشارع لأبتاع بضعة أمتار من القماش. وظللت أحشد تركيزي فيما أريد وأفاضل كل شيء، وبينما أساوم البائع على السعر إذ بعيني تعلق بأعلى على مستوى السقف لأتوقف وأسأل البائع في أسلوب مخابراتي "ايه ده هو إيه العمود الخشب ده"! تداعت في رأسي الأفكار، شهقت بالله عليك أخبرني أي شيء وسأحتمل، إلا أن تخبرني أننا أسفل مسجد الغوري تماما، ذلك المسجد الذي لا يضاهيه شيء أبدا. أخبرني أن القاهرة كلها ضاقت بكم ذرعا لتأخذوا هذه المساحة من هذا المسجد، ولكي تتخيل حالتي بعد اكتشافي ذلك، لا بد وأنك شاهدت أفلاما عربية قديمة، أتذكر تلك الدوامات السخيفة التي تصحب أحلام البطل أو مخاوفه أو تذكر أمرا ما له.

لقد "دوَّختني" تلك الدوامات حرفيا. أعطيت للبائع ما أردت وخرجت، لن تكون هذه آخر زيارة أبدا لتلك المنطقة، فأنا زرتها مرتين بعد هذه المرة، ولكن قلبي انسحق حقا هذه المرة، ليس جدلا مرفها أبدا. ولكن أي عبث وأي فوضى يحملها مكان بهذه الروعة، أي تشوه وأي تلوث، لو رأى بناة تلك البنايات الرائعة ما سنلحقه بها من قبح لما بنوها بهذا القدر من الجمال، تناقض صارخ بين ضدين، بين أعظم محبي ومقدسي الجمال، وبين أكثر من يحترف القبح، لو كان المكان أقل جمالا، ولو كنا أقل قبحا لما كان كل ذلك الألم.

تخيلت حين بدء كتابتي أنني سأسرد رحلاتي الثلاث بما فيها الصلاة داخل مسجد الغوري، والصلاة في ساحة آخر لمسجد ذو طابع فاطمي على الأرجح، لكني لم أسرد سوى مشهدا تتبعه مشاهد أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.