شعار قسم مدونات

عن مدوّن الجزيرة الفقيد خالد زوبل

مدونات خالد زوبل

في أغسطس من العام الماضي، انبلج فجر مدونات الجزيرة، وكان بنا التوق عارماً، والاستقبال حافلاً، أن وجدنا وطناً لأقلامنا المترعة بالفكر، المسجاة بدماء أوطاننا الباكية، ابتهجنا جداً وبدأنا نتساءل عن السبيل إلى منبرها، أقلامنا من كانت تسألنا وآمالنا تحرضها، خاصة بعد أن وجدنا الحصرية للأسماء المعروفة لا سواها، مما أشعل جذوة المنافسة في أعماقنا، بغية إظهار ما لدينا وإيصال رسائلنا من خلال منبرٍ أليق بحجم منبر الجزيرة، وفي أخيلتنا عجاجة الشهرة التي تهضم الكثير وتنتقي القلة، وقد تكون تلكم القلة دوناً في المضمون مقارنة بالمبدعين المغمورين في واقع أمتنا، وكشبابٍ يتعشق المراقي ويحلم بالوصول إلى سلم الوصول، سعينا إلى هذه الزرقاء ننشدها، ليس من أجل الحضور فحسب، بل من أجل أن نقدم ما يليق بنا كمبدعين ليس لهم أسماء، وبما يليق بزرقاء الجزيرة.
 

كانت المبادرة حاضرة، حين علت الأصوات طالبةً الالتحاق بالأسماء المعلبة المعروفة، على أن التسجيل سيُفتح للجميع دونما مثنوية، فكانت المبادرة الترشح من قبل الجمهور لمن يجدونه حقيق بمقام الجزيرة، هرع الكثير إلى ذلكم العرس الديمقراطي، وكنت وأخي الأستاذ خالد زوبل من اليمن وغيرنا ضمن الباحثين عن التصويت، الراغبين في أن تُضَم اسماؤنا إلى تلكم الكوكبة المختارة من الكتاب، إذ أن لسان حال المترشحين أمثالنا كان يشعر بالغُبن، من أن يُجهل اسمه وتحضُر بصمته، متسائلًا في الآن عينه عن الفوارق، دون أن يجد سوى فارق الشهرة، ولا مناص من أن يمضي فيها ليس حباً ولا تعففاً، إنما يجب على العالِم بتعبير الإمام البخاري؛ وكذا الكاتب أن يُظهر نفسه، لا أن يهضمها ويجعلها حبيسه تطلعاته الجافة. 
 

لا رسالة يمكن لنا أن نقرأها في هذه العجلة من الموت، سوى رسالة واحدة تحمل في طياتها عمرٌ آخر يجب علينا إضافته إلى أعمارنا، إنه عمر المعرفة والقيام على الكلمات نشحذها بمشط الفكر، ونشحذ الفكر بأمشاطها، حتى نبلغ سقفها أو يباغتنا الموت دون السقف

لم أفز في ذلكم العرس الديمقراطي، وكذلك لم يفز أخي خالد، ذلك الأخ الخلوق الذي غادرنا البارحة إلى الحنّان، لم أكن أعرفه أو أسمع عنه من قبل قط، اللهم إلا يوم تلكم الترشيحات، فدخلت أقرأ مقالاته وأفكاره في مدونته الخاصة، فعجُبت بها، ووجدت أنه جديرٌ بأن يكون كاتباً على منبرٍ زاهٍ كهذا، وبينما هو يحشد الأصدقاء والأخلاء ،وأنا كذلك بالإزاء، لم أظن ولو للحظةٍ واحدة أن أحلامه وطموحاته وهمته العالية ستؤل موتاً مطلقاً في غضون شهورٍ قليلة، ولم أظن أيضاً أن من الممكن أن تؤل أحلامي وطموحاتي وهمتي العالية ولو للحظة واحدة موتاً مطلقاً، كخالد أنا لا زلت أحلم، وكخالد أنا ما زلت أسعى إلى غايتي، فلماذا يشعّعنا الموت ويقتل أرواحنا دون تحقيق مرادنا، ولماذا لم أكن أنا وكان خالد، ما سر هذا القدر المورد بالأسرار، وما حيلة ضعفنا المكدود في أصفاده. 

ذهب خالد والجموع على صفحات التواصل الاجتماعي تشيعه بكلمات الثناء والمديح والدعاء، ذهب إلى مثواه الأخير، ذهب والشهود كُثُر على أخلاقه وتواضعه وجميل صفاته، وأنا أحد الشهود على حسن نيته حيال أمته وحيال وطنه، فحروفنا قبسٌ مقدسٌ يضيء في أكبادنا، فنخرج ما نقول بتريث وإتقان، كمن يخرج إبرةً ضائعةً من كومة قش. 

ترك خالد ثلاث تدويناتٍ على هذا المقام، وكان آخرها تدوينةً أراد أن يجعل منها سلسلة، ولكن سيف الموت قطع جميع السلاسل والحبال، فلم يكمل ما أراد، كما لم يكمل عمره الزاهر الريان. توقف قلب خالد إلا أن قلب كلماته سيظل ينبض، ارتخت يداه إلا أن طموحه لم يرتخي من أيادي من يعشقون الطموح، التفت قدماه إلا أن السيقان على الأقدام سارت في خطاه. 
 

كيف للدموع وحدها أن تُعبِّر عن المُصاب، بل كيف لي أن أبكيه دون أن التقيه، ودون أن أتواصل معه، لا أدري؛ فلعل للقلوب تخاطر وللغايات لغةً لا نفهمها إلا حين يكتظ بنا وبها الحزن ويباغتنا وإياها الوجع، فطائر الشوك يردد أحلى وأرق أغنياته حين ينزف دماً قبل سكرة الوداع الأخيرة، ولا أظنني سوى ذلكم الطائر في سكرة حزن وفي تطواف فكر، أُقلِّب في رأسي تراجيدية أخشاها يوماً، إن لم تتركني أُكمِل عجلة ما أريد، فالموت لا يُخشى كحقيقة ، ولكن موت الأحلام والتطلعات موتٌ مُركَّب بشع، يضاعف النزع ويراكم الألم.

حُزنُنا على خالد لأنه اختار الخلود بموجب المعرفة، ولم يختار الموت بموجب الجهل قط، امتشق قلمه وعارك على ناصية الحلم بتوصيف درويش حتى سقط شامخاً

خالد ذلك الشاب الجميل سيُدفن اليوم، ونحن بعده سنُدفن لا شك، قد يطول بنا العمر وقد يقصُر، ولا رسالة يمكن لنا أن نقرأها في هذه العجلة من الموت، سوى رسالة واحدة تحمل في طياتها عمرٌ آخر يجب علينا إضافته إلى أعمارنا، إنه عمر المعرفة والقيام على الكلمات نشحذها بمشط الفكر، ونشحذ الفكر بأمشاطها، حتى نبلغ سقفها أو يباغتنا الموت دون السقف، ولا خيار لأمثال خالد غير السعي، يحدوهم الأمل إلى السقف ويجذبهم الموت إلى القاع، وإن كان بي الاعتقاد عميق في أن القاع يجذب الموت، قبل أن يجذبه الأخير إليه، فمن يختار طريق الجهل ويجافي العلم، لا يمكن أن نخاف عليه، لأنه رضي بأن يموت قبل أن تدب فيه الحياة وبعد أن دبّت، ولأنه إبّان ذلك لم يصنع فارقاً؛ بل لم يحاول، وصدق حبيب الحق وسيد الخلق حين قال " من استوى يوماه فهو مغبون" وأي غُبنٍ أكبر من أن يعيش المرء دون حلم، دون غاية، دون بصمة يتغيّاها في جبين أمته ووطنه. 

حُزنُنا على خالد لأنه اختار الخلود بموجب المعرفة، ولم يختار الموت بموجب الجهل قط، امتشق قلمه وعارك على ناصية الحلم بتوصيف درويش حتى سقط شامخاً، وفي أنفاسه الأخيرة ألف كلمةٍ يريد أن يقولها، وفي مداد قلمه ألف كتاب يريد أن يخطه، وفي خطة عامه هذا ألف كتاب آخر يريد أن يقرأه، لذلك نحزن عليه ونبكيه، ولا يسعدنا أن يُشاك أمثاله من النابغين بشوكة، لأن ألف جيل يرقد في صدره، وفي كل جيل أضعاف خالد، يسعون في أثره ويعاركون في أحلامه، فتغمده يا ودود في مستقر رحمتك، ومد بأعمارنا حتى نحقق غاياتنا التي هي غاياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.