شعار قسم مدونات

بالإنسان وبالأزمات الكبرى نصنع الحضارة

astronomy
لا علاقة لتقدم أي بلد بوجود الثروات الطبيعية فيه، فالشعوب المتخلفة هي التي تطأطئ  رأسها للأرض معتمدة اعتمادا كليا على ما ستخرجه منها كي تعيش، وستبقى رؤوسها في الوحل حتى تموت، فتقدم الشعوب مرهون بإرادة حقيقة، بكل بساطة تبني صرحا موحدا لتجاوز ويلات الجهل، ونفي الاعتماد الأعمى على أكل السمكة، دون تعلم لمهنة الصيد تشريحا للمثل المشهور. هل فكرت عزيزي القارئ يوما، كيف تحولت الهند من الفقر إلى سادس قوة اقتصادية عالميا؟ أجيبك بكل بساطة، لأنها اتخذت من العنصر البشرى مرتكزا لتحقيق نهضتها، فأصبحت في نظر العالم، قوة عالمية صاعدة، تفورُ بالثورات الصناعية والتكنولوجية، بعد أن كان ينظر لها حتى زمن قريب، كبلد يسوده البؤس وتضربه المجاعة ويعشش فيه الوعي الغيبي.
 
لا تحدثني عن ثروة أي بلد وطريقة نموه، وأهله مشحونون بالحقد، وقابعون في الجهل والعنصرية والحروب. السودان مثلا، رغم الثراء الطبيعي الفاحش يستورد الآلات كلها.

وما رأيك بسنغافورة؟ البلد الذي بكى رئيسه ذات يوم أسفا، لأنه رئيس بلد لا يوجد فيه مياه صالحة للشرب، ولا أي أساس للتقدم، ولا أي ثروات طبيعية، واليوم يتقدم بلده على اليابان في مستوى دخل الفرد. وكذلك المجتمع البرازيلي، الذي تحول من معدم وفقير في أغلبه إلى منتج، ويمتلك طبقة وسطى عريضة وفاعلة ومؤثرة، لقد تحولت البرازيل من دولة فقيرة ذات أوضاع اقتصادية متردية كثيرًا، تخضع للتبعية الأمريكية، ومدينة بالعديد من الأموال لصندوق النقد الدولي، إلى دولة صاحبة اقتصاد كبير، وضعها في مرتبة تاسع أكبر اقتصاد في العالم، وفي المرتبة الأولى بأمريكا اللاتينية.
 

عدوى التقدم الحضاري لم تقف عند هذه البلدان فقط، بل تجاوزت الحدود، لنجد الكثير من الدول في العالم جددت عهدها مع قدرات شعوبها، ووقفت مع نفسها وقفة نقدية، محددة بذلك السلبيات والعوائق في مجتمعاتها، محققة قفزات في النمو والنجاح. والأمثلة حاضرة بقوة في هذا العالم متناهي الأطراف. لذلك لا تحدثني عن ثروة أي بلد وطريقة نموه، وأهله مشحونون بالحقد وقابعون في الجهل والعنصرية والحروب. السودان مثلا، رغم الثراء الطبيعي الفاحش يستورد الآلات كلها، والمعدات الرأسمالية، والمواد الغذائية، والسلع المصنعة الأخرى، ووسائل النقل، والمواد الكيماوية والمنسوجات…..إلخ. "نيجيريا" من أكثر الدول غنى بالثروات والمعادن، ومن أكبر دول العالم المصدرة للبترول، ولكن حالها ووضعها المزرى ينبئك بخبرها ، والسبب أن الإنسان فيها مشبع بالأحقاد العرقية، ومحمل بالصراعات.
 

موريتانيا التي لا يتجاوز عدد سكانها عتبة الأربع ملايين نسمة، وبثروتها الحديدية والسمكية والمعدنية، التي يمكنها أن تحول حياة الفرد إلى أحسن حال، وذلك لبعد التناسب بين الموارد الضخمة وعدد السكان، رغم تجاوزنا عن الثروة الحيوانية، والمناطق الزراعية الكبيرة جدا، التي يمكن ولو بقليل، يكفيها ليعيش الفرد دون استيراد أي شيء، لكن الواقع مختلف، والسبب أن التركيز على تقدم الفرد الفكري والعلمي منعدم تماما، فالسلع الأجنبية تتبرج على الواجهات التجارية، رغم انف الكل، ومنتجات الالبان الهولندية والألمانية على الرفوف تسخر منا، ومن عجزنا، وهذه الحقيقة المرة هي سر ترنح الأوقية أمام الصفعات، لأن الطلب الوطني على المنتجات الأجنبية، أعلى بكثير من قدرة اقتصادنا على زيادة عرض المنتجات، ولو داخليا، فمن المنطقي جدا، أن تجثو العملة على ركبتيها، وتتكلس مفاصلها وتعجز عن الحركة.

وسنة الحياة لا تتسق مع منطق أن تقاتل وتقاوم وأنت جسد بلا حراك. كل هذا بكل بساطة ثمن من أثمان عدم صناعة منظومة علمية وطنية، تجعل منا صانعا ومنتجا للآخر، الذي هو منتج لنا. فمثلا، تليفون "جالكسي" أو "أيفون" يحتاج من الثروات الطبيعية ما لا يتجاوز قيمة دولار واحد! جرامات بسيطة من الحديد، وقطعة زجاج صغيرة، وقليل من البلاستيك، ولكننا ندفع فيه ضعف قيمته 1000 مرة، وهذه القيمة تتجاوز عشرات براميل النفط والغاز! والسبب بسيط جدا؛ لأنه يحتوي على ثروة تقنية، من إنتاج عقول بشرية، توصلت للعلم عن طريق الاستثمار فيها.
 

السؤال الذي يطرح نفسه، على كلِّ من ينشد الإصلاحَ والتغييرَ في عالمنا، أو يفكر في وضع أمته على خارطة الشعوب والأمم، ويبحث لها عن مكانة مشرقة تحت الشمس، هو: كيف نهضت ألمانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وما لحق ببلدانهما من تبعية ودمار؟ وكيف تقدّمت كوريا الجنوبية وسنغافورا والصين والبرازيل لتتحول إلى مراكز صناعية وتجارية عالمية، وتضع لها مكانة بين الشعوب والدول المنافسة للغرب؟ طبعا ما تزال أغلبية عوالمنا تعيش ثقافة "تقليد المغلوب للغالب"، واستشراء عقلية "القابلية للاستعمار"، والتي حاول المفكر الجزائري مالك بن نبي معالجتها في نهاية الأربعينيات في كتابه (شروط النهضة)، ولكن – للأسف – فإن أنظمة الاستبداد أحكمت قبضتها، وقيَّدت الحرية، وحرمتنا من النهوض.
 

إن الحروب التي تتعرض لها أغلبية المناطق العربية اليوم، بدوافع سياسية ودينية، وحالة الاقتتال الداخلي التي تجتاح تلك الأوطان، يحب أن نجعلها مخاض ما قبل الولادة.

فلولا الحريات التي أتاحها الغرب لمواطنيه، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الثقافية والعرقية، لما نهضت أمريكا، والتي كبّلتها لعقود طويلة الطبقية (أسياد وعبيد، أبيض وأسود). ففي الخطاب الذي ألقاه "إبرهام لينكولن"؛ الرئيس السادس عشر لأمريكا، بعد انتهاء الحرب الأهلية في نوفمبر من عام 1863، والتي استمرت قرابة خمس سنوات بين الشمال والجنوب، والمعروف بـ"خطاب جيتيسبيرغ"، حيث أكد فيه على قيمة الحرية لاجتماع الشمل ونهضة البلاد، وذكر بأن الأمة لم تولد في عام 1789، ولكن في عام 1776، وكرَّس مقولة "إن كلَّ الناس خلقوا متساوين".
 

وقد عرَّف لينكولن الحرب بأنها جهد مكرَّس لمبادئ الحرية والمساواة للجميع، وأن تحرير العبيد أصبح جزءاً من جهد الحرب الوطني، وأعلن أن وفاة هذا العدد الكبير من الجنود الذين سقطوا على مذبح الحرية لن يذهب سدى، وأن الرق سينتهي، وأن المستقبل سيكون للديمقراطية، وسيكون الحكم للشعب ومن الشعب. وختم لينكولن كلمته التاريخية بالقول: "إن الحرب الأهلية كان لها هدف عميق، ألا وهو ولادة جديدة للحرية في الأمة"، حيث تمَّ شطب القوانين التي تحمي العبودية في الدستور، والتأكيد على المبادئ التي ترفع من قيمة الحرية وتعززها في الثقافة الأمريكية. كانت هذه هي المحطة الأولى التي انطلقت منها نهضة أمريكا، إلى أن بلغت أوج مكانتها؛ باعتبارها الدولة الأعظم في العالم، وذلك بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية.
 

في هذه الحروف البسيطة، أردتُ أن نتذكر جميعاً بأن الحروب التي تتعرض لها أغلبية المناطق العربية اليوم، بدوافع سياسية ودينية، وحالة الاقتتال الداخلي التي تجتاح تلك الأوطان، يحب أن نجعلها مخاض ما قبل الولادة، لابد لنا أن نجعل منها أداة للبناء الحقيقي، وأن ننهض من تحت رماد العبثية التي نحياها كطائر "الفينيق"، ونجدد عهدنا على الأخوة ، وأن نعي مخاطر ما نحن فيه، وكيف يهدد وجودنا كمجتمعات، وأن نثبت للعالم أجمع بأننا نستحق جدارة الحياة.
 

فدول كألمانيا والصين والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، بكل هذا التنوع المذهبي والعرقي والثقافي، استطاعت النهوض، فقط، لأنهم آمنوا ببناء الإنسان، بعيداً عن أي توجهات مذهبية أو عرقية. علينا أن نتساءل فقط، أين نحن اليوم من كل ما يحدث في العالم؟ وعلينا أن نعلم أن العالم لا ينتظر المتخلفين عن رَكب الحضارة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.