شعار قسم مدونات

أهدافنا الحقيقية

An archer prepares to fire an arrow into the sea as part of a Claiming of the Waters tradition at the 800-year-old Hook Head lighthouse in Hook Head, Ireland January 1, 2017. REUTERS/Clodagh Kilcoyne
يكثر الحديث في هذه الأيام عن التخطيط الاستراتيجي والتشغيلي والشخصي، وعن وضع الأهداف الاستراتيجية والأهداف المرحلية والأهداف العامة والأهداف الخاصة، وفي سبيل توضيح ذلك للناس تُعقد الدورات التدريبية وتقام المحاضرات وتؤلف الكتب وتنشر المقالات موضحة أهمية الأهداف وطرق صياغتها ومواصفاتها.
 

هذا النشاط المهتم بصناعة الأهداف يُعد من الأمور الجيدة والمفيدة، ولكنه في كثير من الحالات لا يُحقق الأهداف الحقيقية منه، مما يعكس وجود مشكلة في التفكير، وضعف في إدراك الأهداف من وضع الأهداف! إنّ الإنسان الذي لا يعرف وجهته في هذه الحياة وليس لديه أهداف يعمل لتحقيقها، يعيش دون أن يدرك هل هو ضائع أم لا! ولا يعرف الوقت الذي سيصل فيه إلى حيث لا يدري! يدور في حلقات مفرغة وهو لا يعي! ينتقل من حلقة إلى أخرى دون أن يشعر! يعيش في فلك الآخرين، ويسير مع التيار، وحسب الظروف! ولا يمكن للآخرين مساعدته، لأنه لا يعرف وجهته! يقضي عمره منتظراً ما ستسفر عنه شؤون الحياة، وما ستمليه الأحداث حتى يتكيّف معها محققاً لها أهدافها منه، دون أن يحقق هو أهدافه منها، لأنه بلا أهداف، وأمور الحياة تملكه ولا يملكها.
 

إنّ من أهم الحقائق التي لابد أن يكون الإنسان العاقل على دراية تامة بها: أنّ الله تبارك وتعالى لم يتركه عرضة للضياع والتخبط، يضع أهدافه بنفسه، ويصوغ اتجاهاته الاجتماعية والإنسانية والمالية والإدارية والسياسية دون توجيه إلهي.

هذا الإنسان ربما يكمل دراسته، وربما يقرأ كتاباً، أو يَحضُر محاضرة أو دورة تدريبية، وربما يكسب مالاً وفيراً أو قليلاً من عمله، وربما يحقق نجاحاً هنا أو هناك، لكنه بالتأكيد لن يشعر بمشاعر الرقي والإنجاز، ولن يقوى على لاستمرار في النجاحات العابرة التي حققها، لأنه لا يعرف هل ما حققه كان هدفاً حقيقياً له، أم أنه سِيق إليه دون إرادة! 

 

هذه الوضعية المأساوية التي يعيشها هذا الإنسان، يشاركه في نتائجها الكارثية إنسانٌ آخر وضع لنفسه أهدافاً وخططاً ربما تكون جيدة، لكنه لم يضعها بناء على الوجهة الحقيقية له، ولم يهتم بطبيعة الطريق الآنية التي يسلكها، فأصبحت أهدافه غير حقيقية، تهتم بالمتعة الآنية التي لا تتجاوز حدود المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وربما تصل إلى حدود التفكير في الأمن والاستقرار، وفي أحيان قليلة تتجاوز هذه الحدود كلها لتصل إلى حدودٍ مالية أو اجتماعية أو إدارية وربما سياسية. ولكنها رغم هذا لن تنتشله من الوحل! ولذلك سيصل إلى نفس الضياع الذي وصل إليه الإنسان الذي عاش بلا أهداف، مع اختلاف سبل الوصول إلى هذا الضياع.
 

إنّ من أهم الحقائق التي لابد أن يكون الإنسان العاقل على دراية تامة بها: أنّ الله تبارك وتعالى لم يتركه عرضة للضياع والتخبط، يضع أهدافه بنفسه، ويصوغ اتجاهاته الاجتماعية والإنسانية والمالية والإدارية والسياسية دون توجيه إلهي، يوضح له الهدف الأسمى من وجوده، ويبين له القضية المصيرية التي تنتظره، ويضع حياته في سياقها الطبيعي، في انسجام تام مع المخلوقات والكون من حوله.
 

يقول الله تبارك وتعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فهذا هو الهدف الأهم والأسمى من الحياة. وقد فصّلَتْه الآيات تفصيلاً دقيقاً ورسمت الطريق لتحقيقه رسماً واضحاً، وبينت نتائج تحقيقه بياناً تاماً. وفى آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون". ويقول تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون".
 

إنّ الهدف من الخلق هو: العبودية لله تعالى، والطريق المحققة لهذه العبودية هي: الاستقامة، والنتيجة هي: سعادة الدارين. وتأتي عمارة الأرض، ورعاية الاستخلاف فيها كعامل من عوامل تحقيق السعادة للبشرية. من هنا ندرك أنّ الجهد البشري وحده ليس كافياً لمعرفة كيفية تحقيق الهدف النهائي، ولا لمعرفة الطريق الموصل إلى تحقيقه، وأنّ نصوص الشرع الحكيم جاءت لترسم الطريق والمنهج لتحقيقه، ثم يأتي دور الإنسان ليضع أهدافه المرحلية، وخطط سيره على هذه الطريق، لتوصله برامجه العملية في نهاية المطاف، إلى تحقيق هذا الهدف النهائي الأسمى.
 

لذا نجد أنّ القران يربط الإيمان في حياة الإنسان بالعمل الصالح، باعتبارهما شرطين لازمين لتحقيق أهداف الحياة وسعادة الإنسان، وبفقدهما يكون الخسران، يقول عزّ وجلّ: "والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات". والمتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أنّ التلازم بين الإيمان والعمل الصالح قد ورد في كثير من المواضع. مما يؤكد أنّ قوة العمل لتحقيق الهدف الأسمى والاستقامة عليه وعمارة الأرض في ضوئه تعتمد على قوة إيمان الإنسان، ولا غرابة في ذلك! فكلما زاد الإيمان زاد وضوح الرؤية للهدف، ليرتفع بذلك الرصيد العملي المحقق له… وصدق الله تعالى إذ يقول: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

والأهداف السامية تتصف بالكمال التام، بينما أهداف الإنسان تأتي ناقصة مهما بلغت، لأن الجهد الإنساني لا يصل حد الكمال أبداً. إذن فالراغب في إكمال جوانب القصور الحتمية في أهدافه، ينبغي عليه أن يصوغ أهدافه بناء على الأهداف السامية، لتكون منضوية تحتها، ومحققة لها، فتستنير بنورها، وتسموا بسموّها. وعند هذه النقطة بالتحديد، يظهر الفرق بين ثلاثة أنواعٍ من البشر: نوع يسير بلا أهداف وينتهي إلى الضياع، ويندرج تحته أغلب البشر، ونوع يسير بأهداف آنية أرضية وينتهي إلى نفس الضياع، ويندرج تحته خلق كثير ولكنهم أقل من النوع الأول، ونوع ثالثٌ يسير بأهداف شاملة سماوية وأرضية عاجلة وآجلة، صاغها مستنيراّ بنور الهدف الأسمى من خلقه، ليسير في طريق واضحة المعالم تنتهي به إلى تحقيق النجاح، وتحقيق الأهداف الحقيقية، ويعد المدرجون تحت هذا النوع أقل القليل من البشر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.