شعار قسم مدونات

ما يقوله العلماء وما يفهمه العامة

Blogs - الكرة الأرضية
في دراسة مجردة قائمة على أبحاث عن عمر الكون والتغييرات العظيمة التي جرت فيه لو تم تمثيل حياة الكون بدءا من الانفجار الكوني وحتى اللحظة على أنه عام من الأعوام التي نعيشها؛ لكانت حياة البشرية هي آخر أربع ثواني من هذا العام التمثيلي.
قُدرت حياة البشرية كعدد سنوات وفق إحدى الدراسات بمائة وألفي عام، منذ طوفان نوح وحتى الآن قرابة المائة ألف عام.

إذن عصى موسى وحدثها العظيم كانت في آخر ثانية من عمر الكون، وكذلك الأهرامات وسور الصين، وكل ما نعيشه الآن هو في آخر ثانية، في الواقع هي ثانية تمثيلية وليست فعلية، يقوم الكون على فكرة البداية والنهائية علمياً كتسلسل منطقي يظهر عبر مخطط التغييرات الكونية عبر ملايين السنين، فالجزيئية التي لها عمرا تجعل من الكل محتوما بالقاعدة نفسها، كونه مجموع من أجزاء، على أن نستذكر مجدداً أن التمثيل بعام بشري يخضع لتقديرات علمية غير جازمة كونها تشكل مزيجا ما بين الماضي المبهم والحاضر غير المدرك بالكامل، لكن لماذا غير مدرك أساساً؟

إن كان الإنسان يعلم من الفضاء أضعاف ما يعلمه عن عمق المحيطات المجاورة له وأطرافها على مرمى حجر منه وهي بحد ذاتها ميدان لسفنه، إن كان اكتشاف مرور مذنب ومراقبته تتم خلال سنوات في حين اكتشاف تيتانيك استهلك عقودا من البحث ولا تزال مئات السفن غارقة غير مستكشفة منذ العصور الوسطى وما قبلها وحتى الآن، مخلوقات جديدة حتى اليوم يتم اكتشافها في جزر أندونيسا، في حين إدراك بعض خفايا الكون العظيم المتوسع أصبح أسهل من عمق المحيط ولو نظرياً.

تبسيط الفكرة وتوحيد المصطلح من قبل العلماء لا يعني أن نبيح لأنفسنا فهم الأمور كما وضعت لنا بمفهوم خاطئ، فلو صح هذا التخيل لكانت مياه الأرض متجمعة في القطب الجنوبي.

ما نراه من النجوم المشعة الآن أغلبه غير موجود، هي نجوم منطفئة منذ ملايين السنوات، وما نراه الآن هو الضوء الصادر عنها خلال حياتها وليس في حالتها الراهنة كونها لم تعد موجودة أساساً.
الضوء الذي يتسبب بظلنا الآن هو من الماضي، وقد استغرق تقريباً ثماني دقائق حتى وصل إلينا.
نعيش في بحور من العلوم، أمواج هائجة ومتلاطمة من النظريات العلمية التي كانت في السابق تسبر المسافة ما بين العين المجردة وعناصر الكون المرئية، أما الآن ومنذ النظرية النسبية وما سبقها بقليل فهي تسبر المسافة ما بين العقل والإدراك البشري وما بين عناصر الكون، مستفيدة من كل النظريات السابقة عبر التاريخ.
نرى فيها أحياناً تناقضات واضحة وغريبة، يرسل الإنسان الآلات نحو المريخ ليكتشف أسراره ويبث الصور من هناك، في حين أن القمر المجاور والوحيد لم يستحق زيارات مقنعة لمركبات فضائية منذ الهبوط المزعوم في القرن الماضي.

بعيداً عن هذه التناقضات والتي لا يحق لنا نقدها أمام إنجارات العلماء الهائلة في مجال استكشاف الكون، نقف واجمين وبصمت مطبق، حينما نقارن أنفسنا أمام كون غير قادرين على استكشاف ما يشبع فضول سؤالنا الأعظم (لماذا كل هذه الضخامة وإلى أين)، هذا كله ولم نتحدث عن توسع الكون المستمر، إذ مجرتنا الحالية ليست إلا بقعة من البقع على بالون ينتفخ بشكل مستمر، وكلما ازداد انتفاخه تباعدت تلك البقع عن بعضها.

لا وجود للتلامس فعلياً بين الأشياء غير الحية ولا حتى الأحياء، المادة (الحية وغير الحية) هي جزيئات والجزيئات ذرات والذرات لا تتلامس تلامسا فعليا، هل نحن إذن نعيش وهم ما يمسى (إحساس)، هل يا ترى حاسة اللمس أكذوبة، لا طبعاً الموضوع يقف على درجة عتبة الإحساس، فلو تشابهت عتبة إحساسك مع عتبة تحسس الذرات لبعضها لانعدمت تلك الحاسة التي تملكها.

بالعودة إلى الكون الخارجي كل خرائط العالم للكرة الأرضية ونقول (كل) جازمين بذلك، تضع القطب الشمالي في أعلى الخريطة والجنوبي في الأسفل، حتى هذه العبارة خاطئة علمياً فلا وجود لأسفل وأدنى في الكون، أدنى وأسفل، أعلى وأدني هي مصطلحات صالحة لبيئة الأرض كونها مرتبطة بالدرجة الأساسية بالجاذبية وما ينتج عنها من تخيلات تساهم في فهم المصطلح أو تخيل المقصود، لماذا يتم تصوير القطب الشمالي على أنه فوق والجنوبي تحت، لأن العلماء يبسطون الصورة لتكون بمفهوم (أرضي) ولتوحيد الصورة، أما صورة الأرض على شكل مغاير أي القطب الشمالي في الجزء السفلي من الصورة والجنوبي في الأعلى هي صورة صحيحة وليست خطأ في الرسم وليست كاميرا القمر الصناعي أو المسبار الفضائي مقلوبة خطاً أو قصداً.

تبسيط الفكرة وتوحيد المصطلح من قبل العلماء لا يعني أن نبيح لأنفسنا فهم الأمور كما وضعت لنا بمفهوم خاطئ، فلو صح هذا التخيل لكانت مياه الأرض متجمعة في القطب الجنوبي وكل محتويات الأرض المتحركة تجمعت هناك وبقي في الشمال ما هو من بنية الأرض الصلبة.

إن يخرجك العلم عن العلم فأنت في طريقك إلى معرفة وإن لم تدخل بالعلم إلا في علم فأنت في حجاب من علم.

لماذا ينبغي أن نتخلص من النظرة الخاطئة والبديهية ونأخذ بعين الاعتبار ما يقوله العلماء؟
لأننا سنصطدم بحقائق مغايرة لما نتصوره لأننا نعيد تصنيع العجلة (وهنا يكمن دور العلماء في توحيد المصطلحات وتبسيط الفكرة للعوام أمثالنا)، هب أنك حافظت على هذا التصور الخاطئ عن اتجاهات الأرض وأسقطت عليها قوانين الجاذبية (والفوق-تحت)، ستصطدم بأول فكرة خاطئة أن السماء تقع فوق القطب الشمالي أما تحت القطب الجنوبي فهناك يقع..  يا إلهي! ماذا يقع هناك؟ سماء سفلية؟
ستبحر في بحر من التناقضات التي تجعلك تستسلم عاجزاً أمام فهم ما طلب منك وهو التفكر في هذه العظمة، أو أن تعيش في محيطك بعيداً عن أي تفكير خارج كينونتك كبشري.

إن كنت تظن أنك صغير أمام كل هذا الإعجاز والعظمة في الخلق لدرجة أنك غير قادر على فهم هذه العظمة أحياناً، فلا تنس أن كل هذا خلق لأجلك كونك المخلوق الذي يتوضع في قمة هرم المخلوقات على الأرض، عدم إدراكك لكل عناصر العظمة في هذا الكون اللامتناهي لا تجعل منك مخلوقا هامشيا لا معنى له، أنت الخليفة للخلاق الذي أوجدها كلها ولو كنت مخلوقا هامشيا لما حُملت بحمل خلافة الله على أرضه، وهل يضع رب العزة الخلافة في مخلوق غبي أو غير قادر على الإدراك، تعالى رب العزة عن ذلك.

هل فهمنا الرسالة عبر سبر ما هو حولنا وما هو بعيد عنا؟ والبعد هنا ليس البعد النظري وإنما المسافة التي يصلها الإدراك أو التخيل. إن كنا عاجزين عن البحث فعلينا أن لا نخطئ في فهم الموجود ولا فهم التكليف والغاية من هذا الوجود، كيف لنا ذلك إذن؟ يقول الإمام النفري في أحد مخطوطاته المكتشفة بعد وفاته بمئتي عام:
"إن يخرجك العلم عن العلم فأنت في طريقك إلى معرفة وإن لم تدخل بالعلم إلا في علم فأنت في حجاب من علم"، ومعناها المبسط، ولها كثير من التأويلات التي يصعب إدراكها، علماً أنها تأويلات وضعت لشرحها أساساً:

عدم توسيع مداركك ولجم نفسك بالعلم النمطي الذي لا يرتقي لأن يكون معرفة قابلة للنقل والتداول، إذن أنت في فخ علمي وحدود ضيقة مهما اتسعت إنجازاتك ومداركك، مع فهم مقاصد العلماء بدءا من المصطلح وحتى البحث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.