منذ أن نشأت أمريكا كان للمسيحية الصهيونية تأثيرها الكبير فيها، بحيث استطاع اليهود استغلالها ونقاط التقائها لصالح الحركة الصهيونية وقيام الدولة، فعندما وصل المهاجرون الأوائل إلى المستعمرات الأمريكية اعتبروها بمثابة "أورشليم الجديدة"، وشبهوا أنفسهم ببني إسرائيل الفارين من ظلم فرعون، بحثاً عن أرض الميعاد الجديدة.
وفي ذلك يقول الأب البروتستانتي "جون كوتون" في إحدى مواعظه: "إنَّ الرب حين خلقنا، ونفخ فينا روح الحياة أعطانا أرض الميعاد الجديدة أمريكا، وما دمنا الآنَ في أرضٍ جديدة فلا بُد من بدايةٍ جديدةٍ للحياة، نعمل فيها من أجل مجد بني إسرائيل، هذا الشعب المختار"، ولذا ليس من باب الصدفة أنْ يكون أول كتابٍ طُبع في أمريكا، هو "سفر المزامير"، وأن تحمل أول مجلةٍ صدرت عنوان "اليهودي"، وأنْ تكون أول درجة دكتوراه منحتها جامعة هارفارد عام 1842م بعنوان "العبرية.. اللغة الأم".
كان الاعتقاد الديني بضرورة العودة لأرض ميعاد اليهود ضارباً جذوره مع نشوء أمريكا، فالرئيس الأمريكي "جون آدامزJohn Adams" يعتبر أول رئيسٍ أمريكي دعا إلى استعادة اليهود وطنهم وإقامة دولةٍ مستقلةٍ لهم، حيث يقول: "أتمنى أن أرى ثانيةً أمةً يهودية مستقلةً في يهودا". وكان للحركة المسيحية الصهيونية في أمريكا رموزاً بارزة داعية لتنفيذ الوعد الإلهي، فـ"وليام بلاكستونWilliam E.Black Ston" مؤلف كتاب "عيسى قادم Jesus is coming"، المترجم لأكثر من 48 لغةً، كان المؤسس الأول لجماعات الضغط المنظمة في أمريكا "lobby"، والهادفة لإنشاء دولة يهودية في فلسطين قبل دعوة هرتزل، وأسس منظمةً أسماها "البعثة العبرية نيابةً عن إسرائيل"، وما زالت قائمة إلى الآن، وتعرف بمنظمة "الزمالة اليسوعية الأمريكية". وفي هذا السياق وصف "كولن باول Collin Powell" المجتمع الأمريكي بأنَّه يهودي مسيحي وأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية دولة يهودية مسيحية.
المسيحية الصهيونية مع الصهيونية اليهودية في نظرتها للقدس كمدينة يحكم المسيح العالم من خلالها، وتمهيداً لذلك لا بُد من قيام الهيكل، الذي يُزعمُ أنَّ مكانه الصحيح مكان المسجد الأقصى المبارك، وتستند المسيحية الصهيونية في ذلك إلى ما ورد في "سفر زكريا"، حيث يقول الرب: "إني قد غرت على أورشليم وعلى صهيون غيرةً عظيمة، ولكنَّ غضبي متأججٌ على الأمم المتمنعة، سأرجع إلى أورشليم فيُبنى هيكلي فيها وتُعمر أورشليم".
ويفسر هذا الواقعُ الخطابَ الذي ألقاه بنيامين نتنياهو عام 1985م، عندما كان سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، أمام الجمعية العامة للمنظمة الدولية وقال فيه: "إنَّ كتابات المسيحيين الصهيونيين من الإنجليز والأمريكان، أثرت بصورةٍ مباشرة على تفكير قادةٍ تاريخيين مثل لويد جورج، وآرثر بلفور، إنَّ حلم اللقاء العظيم أضاءَ شعلةً في خيال هؤلاء الرجال، الذين لعبوا دوراً رئيساً في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية". وكان نتنياهو أكثر وضوحاً عندما قال: "لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ ألفي سنة، تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين".
على الجانب، رفض أصحاب المسيحية الحقة خطط الصهيونية اليهودية والمسيحية الصهيونية، والطرح الديني لكليهما المتمثل بقيام إسرائيل كشرطٍ لعودة المسيح، وحكمه الألفي، وذلك استناداً لنصوص وردت في الكتاب المقدس تُشير إلى تعارض ذلك الطرح مع ما ورد في العقيدة المسحية، وتورط اليهود في قتل المسيح أساساً، وكون المسيح الذي يُروجُ اليهود لمجيئه مختلفاً عن المسيح عيسى بن مريم، فاليهود في نظر الرافضين لادعائهم ينتظرون مجيء مسيحٍ محاربٍ خاص بهم، يبسط حُكم صهيون على كل الأرض من "أورشليم"، حيث يقول موسى بن ميمون حول عدم إيمانهم بالمسيح: "لو كان عيسى بن مريم قد أعاد الهيكل، وكان نجح في لمِّ شمل أسباط إسرائيل من الشتات، لكان قد أصبح من الممكن اعتباره المسيح المنتظر، لكنه لم يفعل شيئاً من ذلك، بل أُعدم، فهو ليس المسيح الذي علمتنا الشريعة أن ننتظر مجيئه. إنَّ المسيح الذي ننتظره سيكون على يديه فداءُ إسرائيل، أمَّا هذا "عيسى بن مريم" تسبب في دمار إسرائيل، وكان المتسبب في استسلامها للذل والشتات وإفساد الناموس، وتضليل العالم بعبادة إلهٍ غير إله إسرائيل، لكن عندما يأتي المسيح الحق المنتظر ويعلو ويسود، سوف يتغير كلُّ هذا ويظهر زيفه".
ما زال المسيح يُذبح ويصلب كل يوم، وتُخان عهوده وتحرف أقواله، وباسمه يسعى الشيطان لحكم العالم |
ويعتقد المعارضون للمسيحية الصهيونية، أنَّ اليهود هم من قتلوا عيسى -عليه السلام-، ويذكر الإنجيل أنَّ أحد تلاميذه من اليهود ويدعى "يهوذا الإسخريوطي" هو من خانه وسلمه للكهنة، وتنكر الكنيسة الكاثوليكية في معظم أماكن تواجدها أيَّ وعدٍ توراتي لليهود في فلسطين تروج له المسيحية الصهيونية، وتقول بأنَّ السيد المسيح قد نسخ أحكام العهود القديمة ولعن فقهاءها، ولا تعترف الكنيسة كذلك بأنَّ اليهود هم شعب الله المختار، وأنَّ لهم حقاً توراتياً في فلسطين أو المقدسات، بل تَعتبر من يُقر بذلك باتباعه عقيدةً على الطريقة اليهودية، وتُشير لنفسها بأنَّها التجسيد الحقيقي للمسيح.
وحتى الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا فقد رفضت أقاويل المسيحية الصهيونية، وعارضت هجرة اليهود لفلسطين، وأصدرت بياناً في نهاية القرن الثامن عشر(1897م)، أشارت فيه إلى أنَّ التيار المسيحي المقصود يهدف بالأساس إلى السيطرة على فلسطين من خلال مسوغاتٍ دينية تروج لها الصهيونية الدينية وتبتعد كل البعد عن المعتقدات المسيحية الأصيلة، وأنَّ إعادة بناء القدس لتصبح مركزاً لدولة "إسرائيليةٍ" أو يهودية، يتناقض مع نبوءات المسيح التي تقتضي أن تكون القدس للعامة وليست حكراً على أحد حتى نهاية الزمان، وتجلى ذلك في البيان الذي أصدره "الفاتيكان" عقب المؤتمر الصهيوني في بازل عام 1897م، وفيه: "إنَّ بناء القدس كي تُصبح مركزاً "لدولة إسرائيل" يتناقض ونبوءات المسيح نفسه".
على كل حال، منذ خيانة يهوذا الإسخريوطي للمسيح قبل آلاف السنين، وانتقالاً لـ "جون أدامز John Adams" و"هاري ترومان Harry S. Truman"، و"دوايت أيزنهاور Dwight D. Eisenhower"، مروراً بـ"ريتشارد نيكسون ورنالد ريغان Ronald Reagan"، و"جورج بوش الأب والابن George W. Bush"، وانتهاءً بـ"دونالد ترمب Donald Trump"، المتأثر بالمؤلفات الصهيونية لبنيامين نتنياهو، والذي يتخذ مستشارين مؤمنين بالمسيحية الصهيونية، ما زال المسيح يُذبح ويصلب كل يوم، وتُخان عهوده وتحرف أقواله، وباسمه يسعى الشيطان لحكم العالم، ومازال ابن مريم ماضياً في طريق الآلام، رافضاً أن تكون القدس عاصمة فئة ضالة تلذذت بدمائه الطاهرة المعذبة، ما زال حياً وسيبقى، شاهداً على الظلم في زمن صمت الحناجر، ناصراً للمعذبين أينما كانوا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.