شعار قسم مدونات

"وجود الله" ومبدأ السببية

blogs - pray muslim

ينص مبدأ السببية عن أن "هُناك سبب أو علة وراء كل حدث في الوجود". يفترض البعض في هذا المبدأ الضرورة والشمول، بحيث يكون ساريا على كل ما هو موجود، وبشكل أخص على الكون حينما يُنظر إليه من الخارج. وهو ُيستخدم في حُجج إثبات "وجود الله"، وبشكل أدق في إثبات وجود "العلة الأُولى". هذا المقال يطرح نقداً لاستخدام هذا المبدأ في مثل تلك الحجج.

 

إذا قلنا -مع كانط- إن مبدأ السببية لا يحكم -بالضرورة- الواقع في ذاته، أي لا يحكم الوجود خارج حدود العقل الإنساني، وإنما يحكم العقل وبالتالي إدراك العقل للواقع، أي يحكم التجربة كشيء يشتمل على مقولات العقل والمعطيات الحسية معا، فإن مبدأ السببية يفتقر إلى المشروعية الضرورية للاستخدام خارج حدود التجربة. هذه هي الحجة الأساسية ضد استخدام السببية فيما وراء التجربة.

 

خارج حدود العقل والتجربة، من الممكن أن توجد السببية في الواقع، ومن الممكن أن لا توجد، و لا يمكننا افتراض وجودها بدون أن يكون ذلك اختيارا اعتباطيا بدون أي أساس مثلما، هو الحال مع عدم وجودها كذلك. أي لا يُمكننا إثبات ولا نفي وجود السببية في الواقع بمعزل عن العقل.

 

وحيث أن السببية مبدأ عقلي، يجادل البعض بأن مبادئ العقل هي أيضا قوانين للوجود، وهذا ما يجعلها متحققة في الواقع، لأن الواقع يخضع لمبادئ العقل، وهو كلام في منتهى الاعتباطية. إنه في الحقيقة مجرد اختيار لا أكثر، أي أن هؤلاء قد اختاروا افتراض أن قوانين العقل هي قوانين الوجود، ربما لغرض لاهوتي. بغض النظر عن إمكانية كون مبادئ العقل هي قوانين للوجود، ولأن النتيجة بالنسبة لما نحن بصدده هنا واحدة في النهاية فيما يتعلق بمبدأ السببية، سنناقش الآن الافتراض الذي بنص بشكل صريح أو ضمني، على أن مبدأ السببية هو مبدأ ضروري وشامل يسري على كل الوجود، أي هو بمثابة قانون مطلق يقول "لا بد من وجود سبب لكل حدث على الإطلاق":

 

إذا استثنينا
إذا استثنينا "الذات الإلهية" والذات الإنسانية الحرة من السببية، فإننا بذلك نقول بوجود مستويات من الوجود لا يسري عليها مبدأ السببية، وبذلك يفقد المبدأ إطلاقه

إن هذا الافتراض وعلى الرغم من استخدامه من قبل الكثيرين في حُجج وجود الله، إلا أنه وللمفارقة يتصادم مع فكرة وجود الله نفسها. فإذا كان مبدأ السببية ضروري وشامل ومطلق، فإن الله نفسه يجب أن يكون خاضعا لهذا المبدأ، وهو ما يرفضه بطبيعة الحال الإيمان الديني ويناقض مفهوم الله كمطلق من حيث هو مفهوم بغض النظر عن تحققه الواقعي خارج الذهن. أما إذا لم يكن مبدأ السببية مطلقا وشاملا، وهو الافتراض الذي يتسق مع الإيمان الديني، وأيضا مع مفهوم الله، فإن هذا يعني أن هناك حدودا لمبدأ السببية، أي أن هناك واقعا غير خاضع لهذا المبدأ هو واقع وجود الله.

 

إذن، إما أن الله موجود وغير خاضع للسببية، وبالتالي فإن السببية ليست مطلقة، ولا يمكن تعميمها لتكون قانونا للوجود، أو أن السببية مطلقة وفي هذه الحالة فلا داعي للاستمرار في نقاش حجج وجود الله، ببساطة لأن السببية ستكون هي الإله. يُمكننا إعادة تطبيق نفس المفارقة بالنسبة للإرادة الحرة: إما أن تكون الإرادة خارج نطاق السببية، وبالتالي فإن السببية ليست مطلقة، أو أن تكون السببية مطلقة وفي هذه الحالة ليس هناك شيء اسمه الإرادة الحرة.

 

إذن، وعلى أساس هذا التحليل فإن الاستمرار في الاعتقاد بأن للسببية وجودا خارج العقل والتجربة، وأنها مطلقة تسري على كل شيء، وفي الوقت نفسه الاعتقاد بوجود الله وجود الإرادة الحرة، هو عبارة عن تناقض كبير. أما إذا استثنينا "الذات الإلهية" والذات الإنسانية الحرة من السببية، فإننا بذلك نقول بوجود مستويات من الوجود لا يسري عليها مبدأ السببية، وبذلك يفقد المبدأ إطلاقه، وهذا يجعل استخدامه في حجج وجود الله بلا أساس. ببساطة يُمكن افتراض أن الكون في مستوى من المستويات لا يخضع لهذا المبدأ، ما دام مبدأ السببية ليس مطلقا، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون هناك علة أو سبب وراء وجود الكون!

 

قد يبدو ذلك كأمر غير مألوف للعقل بالنسبة للبعض، ولكن الفكرة الأساسية مألوفة جدا، فكل إنسان يعتقد بوجود الله، فهو يعتقد بوجود واقع غير خاضع لمبدأ السببية، وكذلك كل من يعتقد بوجود أو بإمكانية وجود ذات حرة، فهو يعتقد وإن بشكل ضمني، بوجود واقع لا تسري عليه السببية.

 

كل هذا التحليل يؤيد فكرة أن السببية هي مقولة في العقل وليست قانونا في الواقع، ولكنه أمرٌ يجعل الواقع يبدو كشيء ليس بالضرورة معقولا بالنسبة للإنسان، وإذا كان كذلك، فإن كل شيء ممكن، وإذا كان كل شيء ممكن، فلا معنى للاحتجاج بالاستحالة من أجل إثبات -وأيضا نفي- وجود الله. وهذا هو معنى لا جدوى المناقشة العقلية لقضية وجود الله باعتبارها قضية ميتافيزيقية تتعلق بأمر خارج حدود العقل والتجربة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.