شعار قسم مدونات

أهداف أطفالنا تناطح السحاب

blogs طفل

في مشهد سينمائي مبهر، تتقمص القاعة أثواب الفرحة الغامرة! فـ (عارف) ذاك الطفل ابن الأحد عشر ربيعا، يحصل على درجة الدكتوراه بامتياز، مع مرتبة الشرف الأولى من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة. لم يكن هذا الخبر قفشة إعلامية لجذب انتباه قراء صحيفة ما، كما أنه ليس أسطورة خرافية من ضرب خيال الكاتب، ولم يكن أيضا محض تمن لحلم يقظة عابر.. لا!! إنها الحقيقة المرة التي نتجرعها كل يوم: تخلف وتراجع وتخبط في المجهول!

إليكم تفاصيل الخبر:
في إحدى قرى اليمن التي تجاور السماء ارتفاعا حيث تغفو النجوم على شرفات بيوتها، ومع لفحات زمهرير البرد القارس الذي لا ينسى يوما روتينه المتكرر في الحضور، كانت تلك الأم (الأمية) تغزل خيوط المجد بصمت لتصنع رداء لطفلها كي تنقذه من سحر الواقع الذي فتك بأطفال تلك القرية كما فعلت تلك الفتاة لتنقذ إخوتها من لعنة الساحر الذي حولهم إلى بجعات، في الفيلم الكرتوني الشهير.

فبفطرتها السليمة عرفت هذه الأم أن المجد يصعد إليه في السماء، وأن مزلاجه موثق في قلوب الصغار، فهي لا تفتأ تذكر كل يوم أن تنبه طفلها (عارف) بأنه يمكنه أن يسطع كما تلك النجمة في الأفق حينما كانت تسرد له حكاياتها، وكيف ارتقت هذا المرتقى. هذه الأم لم تسمع في يوم أبدا عن شيء اسمه الهدف، ولم تدر ما هو؟ فقدرها المكتوب جعلها تخلق وتترعرع بل وتنجب في بيئة قاحلة من كل أنواع المعرفة، إلا ما كان من نور يلقيه الله في قلب من يشاء من عباده.

نمت همة الأمير الصغير محمد الفاتح وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
نمت همة الأمير الصغير محمد الفاتح وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم
 

لم يحصل يوما لهذه الأم أن سمعت قصة ذاك السلطان الذي مارس شيخه ومعلمه شحذ عزيمته ليصنع هدفه الذي غير به مجرى التاريخ.. إذ كان الشيخ (شمس الدين آق) الذي تولى تربية السلطان (محمد الفاتح) العثماني – رحمه الله – يأخذ السلطان (محمد) بيده ويمر به على الساحل، ويشير إلى أسوار (القسطنطينية) التي تلوح في الأفق من بعيد شاهقة حصينة، ثم يقول له: (أترى هذه المدينة التي تلوح في الأفق؟ إنها القسطنطينية، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أمته سيفتحها بجيشه ويضمها إلى أمة التوحيد، فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: لتفتحن القسطنطينية.. ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش).

وما زال الشيخ بالصبي يريه المدينة ويكرر على مسامعه ذلك الحديث الشريف ويشعره بكلامه، وحركات جسمه، ببهجة النصر وعزة الفتح: (الأحلام تتحقق عندما تراها وتسمعها وتشعر بها.. انظر إلى جيشك وهو يدك القسطنطينية، اسمع هتافات التكبير، تذكر شعورك السعيد بالنصر حينئذ) هكذا كان يقول له. لقد نمت همة الأمير الصغير وترعرعت في قلبه، فعقد العزم على أن يجتهد ليكون هو ذلك الفاتح الذي بشر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

 

كذلك ما كانت هذه الأم (الأمية) تعرف بأن السلطان مراد الثاني والد الطفل (محمد الفاتح) يصطحبه إلى مجلس الحكم معه وهو صغير، حتى يرى ويعرف كيف يخطط، ويبني السلطنة، وكيف يدير شؤون البلاد المختلفة.. ويصطحبه أيضا إلى بعض المعارك، ليعتاد مشاهدة الحرب والطعان ومناظر الجنود في تحركاتهم واستعداداتهم ونزالهم، وليتعلم قيادة الجيش وفنون القتال عمليًا، حتى إذا ما ولي السلطنة وخاض غمار المعارك، خاضها عن دراية وخبرة. لقد أبصرت بالنور الذي قذفه الله في قلبها السلطان محمد يحاصر القسطنطينية 51 يوما، فتعددت خلالها المعارك العنيفة، وبعدها سقطت المدينة الحصينة التي استعصت على الفاتحين قبله..

(ما زاغ بصرها) وهي ترى المدينة الأولى في الأرض أسقطت على يدي بطل شاب له من العمر 233 سنة، بتأييد سماوي ورؤية واضحة مبكرة وعمل دؤوب.. وليس هذا فحسب، بل إنه أدار شؤونها بحكمة ودراية وتخطيط وأمانة وعدل، ما زالت آثارها تشهد إلى الآن.. ففي ذلك البيت المتواضع في كل شيء: بناءه، وحال أهله.. إذ لم يكن البناء إلا ركام من الحجارة السوداء التي ألقيت فوق بعضها لتشكل هرما يقي أهله غوائل الحر والقر، وأهله الذين هم نسخة مكررة لأصحاب تلك القرية الموغلة في البداوة: عوزا وفاقة وأمية. لكن المجد الذي كانت تنسجه تلك الأم الصابرة المثابرة نقشا في قلب ذلك الطفل الصغير، بأن أول أمره في تلك الخربشات التي سطرتها أنامله على بعض جدران ما يسمى مجازا (غرفة) من هذا البيت: (هنا مكتب الدكتور عارف)، وقد كان بالفعل كما قال..

كم أسرتنا قصة (توماس أديسون) وانهمرت لها دموعنا تأثرا، حينما عاد من مدرسته يحمل خطابا لأمه فيه قرارا بفصله بدعوى أنه أغبى طفل في العالم وهم لا يستطيعون الاستمرار في تعليمه، لكنها الأم العظيمة التي ببعض كلمات ألقيت في روعها، حولته من أغبى طفل في الدنيا، إلى عظيم من العظماء الذين تقف لهم الهامات إجلالا وإكبارا: (يا بني لن تذهب بعد اليوم إلى مدرستك! أنت ذكي جدا، وهم يقولون بأنهم لا يستطيعون أن يعلمون من يحملون هذا الذكاء الذي تحمله، فخير لك أن تتعلم في البيت!).

إن صناعة العظماء تكمن في مشاعر تلك اللحظات الأولى الحاسمة التي تستولي على شغاف قلب طفلك / تلميذك، فلها ما بعدها من النتائج.. فالمعلم يرسم صورة واضحة ورؤية جليه لتلميذه، صورة يعيش معها ولها، فالبذرة الأولى للمجد القادم هي وليدة قناعة نمت في قلب أم أو أب أو معلم، لينقلها فسيلة طرية لذاك القلب الصغير هدفا يفني في سبيل الوصول إليه الأوقات والنفقات، تهون في عينيه وهو يطالعه بين النجوم كل ما تظهر في طريقه من العقبات، قد ركب براق الهمة، بزاد قديم تشربه قلبه طفلا قبل أعوام عديدة قناعات لا تقبل الجدال أو الشك.

أول باب يجب أن ندخل منه للخروج من هذا التيه الحضاري الذي نعيشه، هو أن نصنع جيلا يحمل أهدافا واضحة جلية، وأن نخرج من متاهة الأهداف الفضفاضة التي لم نجني منها إلا مزيدا من الضياع

إن قصة (عارف) الدكتور وحصوله بعد 20 عاما على ما نقشته يده يوما ما طفلا، هي نتيجة حتمية لجهد تلك الأم الصالحة، فلم يكن لحساب عدم وجود أبسط مقومات الحياة في قريتهم، أو للفقر الضارب في أعماق تلك الأسرة المجهدة، أو للبيئة القاحلة من سلسبيل المعرفة، والغارقة في أوحال الجهل والتخلف أية حساب إذا كان هناك حسن ظن بالله، مع همة عالية جعلت سقفها السماء، لأنها تعلم بأن المستحيل ليس له وجود في قواميس من آمنوا بـ(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ) فهذا هو المقياس الكوني الذي لا يتبدل ولا يتغير.

إنها التربية التي جعلت من (عارف) وأمثاله الكثير أصحاب أهداف مذ كانوا أطفالا، يكبرون وتنمو معهم أهدافهم، تلازمهم كما ظل أحدهم، كانت قد زرعتها يد أب أو أم أو معلم في غابر من الزمن، حفظته على طول الطريق من التشتت في معرفة ماذا يريد؟ وإلى أين يريد أن يصل؟ كما هو الواقع المرير الآن للكثير من أبناء الأمة!

إن أول باب يجب أن ندخل منه للخروج من هذا التيه الحضاري الذي نعيشه، هو أن نصنع جيلا يحمل أهدافا واضحة جلية، وأن نخرج من متاهة الأهداف الفضفاضة التي لم نجني منها إلا مزيدا من الضياع والتخبط.. كما أن اكتشاف ميول طفلك وهواياته من سنواته الثلاث الأولى، هي المحدد الرئيس للهدف الذي يجب أن تنقشه في قلبه الطري.. فقد تصنع في هذه اللحظات ذاك النجار العظيم، أو الطبيب البارع، أو التاجر الصادق، أو اللاعب المحترف…الخ.

 

إن هذا كفيل أن يحمي جيلا قادما من التيهان والتخبط في معرفة ماذا يريدون.. ألم تكن مشكلة تحديد التخصصات لمن يتخرجون من الدراسة الثانوية تخضع للدرجات التي سيحصل عليها الطالب؟ ليبدأ عهدا جديدا من التيه الذي ربما سيتغير حينما يبدأ بدخوله غمار الحياة مغامرا فيها بعد تخرجه! هذه الصور هي التي تتكرر في واقعنا كثيرا، وهذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.