شعار قسم مدونات

نحن نغرق الآن يا وطن

الهجرة غير المشروعة

إلي الوطن العزيز..
ياوطن الأباء والأجداد أشعر بالأسى وأدعو الله أن يلهمني الصبر علي فراقك والاغتراب عن أراضيك، ولا يمكنني أن أقول إلا ما قاله سيدي ومولاي أبو القاسم عندما طرده أهل وطنه مجبرا "والله لولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت"، أدعو لك بالخير ياوطني الحبيب ولا تعتقد أنني هربت منك وتركتك تلاقي مصيرك وحدك وتتحمل مأسي من يحكموك.

أكتب لك هذه الرسالة من فوق زورق صغير عليه حمولة أكبر من حجمه بأضعاف، ربما تجاوزت  المئات من الباحثين عن فرصة للهجرة غير الشرعية. يرافقني في هذه الرحلة المحظورة أصدقاء شباب وبعض العائلات أزواج وزوجات وأطفال صغار.

الكل يخاف من البحر والرحلة، لكن أقول لك بصراحة أن الخوف من الموت والبحر أهون على الجميع من الإقامة بأراضيك، في هذه الأيام التي جعلتها الحكومة حالكة السواد، لا حق للإنسان يصان ولا كرامة للمواطن ولا حرية ولا أمن و أمان ولا حتي لقمة العيش متاحة، فكيف نعيش ؟

الخوف من البحر أهون على الجميع من الإقامة بأراضيك يا وطن لا كرامة فيه للإنسان ولا حق يصان

ومن شجع الجميع وحفزهم على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة والخطيرة الكثير من المسؤولين ومعظم الإعلاميين الذين قالوا لنا بمنتهى الجدية والحزم"اللي مش عاجبة يغور في ستين داهية". نعم هكذا قالوا فأنا شاب مسكين وكل من معي كذلك من زمرة المساكين، كلنا مسؤولون عن عائلات ولدينا اتجاههم مسئوليات وواجبات، ولم يكن أمامنا خيارات أو حل إلا الفرار واللجوء أو الموت بالجوع.

 قصدنا البحر واعتبرناه صديقا حميما رغم أن الكل يعلم أنه صديق غادرلا يمكن لأحد أن يأمن شره وانقلابه، لكنه السبيل الوحيد لكي ينقلنا لأقرب عواصم أوروبا لنا، نعلم أن الأخيرة لن تقابلنا بفرش الطرقات لنا بالورود، ونعلم أيضا أننا سنكون ضيوف ثقيلة علي القلوب، لأنناغير مرغوب في تواجدهم باعتبارنا عرب.

أنا إنسان عربي أموت في كل يوم ألف مرة ومرة، إن ذهبت إلي بغداد سأموت من التعصب والطائفية، وإن قصدت طرابلس سأموت من المليشيات والبندقية، وإن توجهت إلي دمشق سأقتل على يد شبيحة العصابات أو طائرات المافيا الروسية، وإن سافرت إلي غزة سيتم قصفي بالغارات الصهيونية، وإن أقمت بالقاهرة فسأموت بكل تأكيد بأحد هذة الأساليب علي يد عصابة عسكرية.

لم يتبقى أمامي سوي بوابات أوروبا فربما يحالفني بعض الحظ فيها باعتبارها الحل الأمثل للفارين من جحيم أراضي العرب.

أنا خائف فنحن الآن في منتصف الطريق، إما أن يتركنا خفر السواحل نصل إلي الشاطئ الآخر بسلام، أو يعيدونا إليك أيها الوطن الغالي ومكبلين بالأغلال والأساور الفولاذية، لكن هدأ من روع في هذه اللحظة سماعي لأم تغني لطفلها الصغير الباكي وتشدو بألحان أجمل من صوت صفير البلبل، غنت لهذا الصغير كلمات أغنية العندليب:

" بلدي يا بلدي والله احلويتي يا بلدي
بلدي يا بلدي بلد الثوار يا بلدي".

ورغم صغر سن الرضيع الذي لم يفهم معني الكلمات، ظهرت بسمة وجه بريء حتي من لم يفهم معنى كلمة البلد ينتمي ويعشق ترابك يا وطن. أبنائك لم يتركوك يا وطن إلا كارهين ومجبرين، وفي كل ثانية يستيعيدوا ذكريات وأيام جميلة لن تمحى أبدا من ذاكرتهم.

حقاً أنا خائف.. خائف من نهاية مأساوية للأطفال الصغار وعلي النساء الضعيفات، أحاول إلي الآن أن أتحلي بالصبر وهزيمة القلق والتمسك بالأمل، فربما نصل ونعبر بسلام، لكن هاجس الخوف لم يتركني أبداً ولا أعلم لماذا؟ فربما يكون "قلب المؤمن دليله".

الكل يعلم أن البحرصديق غادر لا  يأمن شره وانقلابه، لكنه السبيل الوحيد لكي ينقلنا لأقرب عواصم أوروبا لنا

هل يا تُرى إن غرقنا ولقينا حتفنا، سيتهمنا حلفاء السلطة الغاشمة والحكومة الظالمة بالخيانة وبيع الوطن كما يفعلوا مع كل الفارين، هل ستترحم علينا وسائل الإعلام وتنكس لنا الأعلام ويعلن الحداد وقراءة الفاتحة علي أرواحنا، أم لن يرحمونا أحياء و أموات، لكن مدرسة جوبلز التي تتميز بالنفاق، ما أكثر الإتهامات و المبررات عندها!

أيها الوطن لن أقول لك وداعا لأني سآتي إليك مرة أخرى، إما ثرياً حرا للاستثمار والبناء، أو سجينا بجريمة الهجرة غير الشرعية، وإما جثة غريق هامدة مغطاة بالأكياس البلاستيكية أو الجرائد الورقية ومحفوظا بالثلوج خوفا من انتشار رائحتي. علي أية حال سآتي إليك في يوماً ما، وأعدك أن أوصي عند مماتي أن أدفن بأراضيك .

يا الله ماذا يحدث لقد تحققت النبوءة، إن المركب تغرق بنا يا وطن فدمائنا في رقبة من ياوطن، لم يتركونا "نغور في داهية" كما قالوا من قبل، لكن أغرقونا كما سيغرقوك أنت أيضا.

ياوطن نحن نغرق الآن، ياوطن لا أجيد السباحة، ألم أقل لك أني سأدفن في أراضيك، لم أخلف وعدي معك، وهم من أخلفوا وعودهم معك.

كنت أتمنى أن أقول إلى اللقاء، لكن أقول رغما عني الوداع يا وطن.. الزورق يغرق الآن وانتهت كلماتي، استأذنك أن انطق الشهادة قبل غرقي، سأجد عند ربي ما لم أجده في أوروبا أو فيك يا وطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.