شعار قسم مدونات

عودة التمثال

blogs - tunis
أقطع زحمة السير بشق الأنفس.. وألعن حظي الذي أتى بي إلى وسط المدينة في ساعة الذروة.. ولربما شتمني أحد السائقين لسوء قيادتي أو بصق علي آخر لتعكر مزاجه.

أرفع رأسي لأرى القائد يمتطي حصانه.. هو لا ينظر إلينا ولا يرى زحمة السير، لا يسمع أصوات المنبهات وضجيج المارة..

قبل بضعة أشهر عاد تمثال الحبيب بورقيبة إلى الطريق الرئيسي لبعض الولايات التونسية؛ عاد التمثال بعدما أصيبت نخبتنا بالعقر وعجزت عن استنباط مشروع يلف التونسيين حوله.

القائد لا يعرف ماذا يفعل هنا ولماذا.. لقد ألف مكانه في القبو.. هناك حيث قبع ما يقارب ربع قرن..
بعدما فاجأ الوزير الجنرال شعبه بانقلاب أبيض أواخر الثمانينات..

وأخذ على عاتقه مهمة تخليص الشوارع من تماثيل الزعيم والمجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة – كما يحلو له أن يسمي نفسه-،قام الرئيس المنقلب – بن علي- بجمع التماثيل على عجل وأمر بإلقائها في قباء البلديات ومراكز المحافظات.

 
بدت الطرقات موحشة فارغة.. لكن الوقت لم يكن كافيا لصناعة تماثيل للرئيس الجديد.. فأمر الرجل بتعليق صوره أين وكيفما اتفق لتغطي عري الشوارع..

قبل بضعة أشهر عاد تمثال الحبيب بورقيبة إلى الطريق الرئيسي لبعض الولايات التونسية؛ عاد التمثال بعدما أصيبت نخبتنا بالعقر وعجزت عن استنباط مشروع يلف التونسيين حوله.

فشل ساستنا أيضا في فرز وتفويض زعيم واحد تهتم الجماهير لأمره يثير إعجابها أو حتى سخطها.
أمام هذا التباعد بين النخب السياسية وعامة الشعب قفزت الفكرة من رأس أحد المستشارين ربما لترتطم بدوار في العاصمة بدءا وتنتقل لاحقا إلى ولايات أخرى..

لا أعرف من الذي جاء بفكرة إعادة التماثيل .. لكنني أجزم أن الدافع لم يكن الوفاء أو رد الجميل للرجل الذي عالجنا من القمل والسل والطاعون والذي نشر التعليم وحرر المرأة والذي لولاه لكنا همجا رعاعا نعيش حربا أهلية أو ربما مجاعة كما يدعون..

ولربما أنجز بورقيبة بعض ما سبق لكن هؤلاء الذين أعادوا تمثاله في خطوة عبقرية وثورية عجيبة لم يتجرؤوا على زيارة الحبيب بورقيبة خلال الحصار الذي فرضه النظام السابق عليه في آخر أيامه واختفى جلهم في جنازته..

وقف التمثال يتفرج على المدن الغارقة.. لربما لعن هو الآخر من أخرجه من ظلمة القبو.. إلى شوارعنا التي تغرق في الوحل والأمطار ومياه المجاري.

لكنهم اليوم يعيدون ميتا إلى الواجهة ليستر عريهم الفكري والسياسي ويخفي فشلهم في إنتاج البديل
اختبئوا وراء القائد الغائب ونسبوه إلى أنفسهم وانتسبوا إليه..

ولو نطق التمثال لقال أنه منهم براء.. وأن من يحاول تقليد حركات – الحبيب بورقيبة – بطريقة فولكلورية مضحكة ومفضوحة لم يستطع أن يجني شيئا من الشعبية والاهتمام.
التمثال يبدو مرتبكا محشورا في المكان الخطأ والزمان الخطأ..

لا يهمنا أمره ونحن نعاني ما نعاني لنفتك رغيف الخبز ونحصل على الوظيفة.. لكننا نكره وجوده.. يأخذ نصف الطريق الرديء دون أن يلقي بالا إلى غضبنا ويأسنا..
أمس هطلت الأمطار بغزارة وأغرقت مدنا بأكملها لساعات..

ووقف التمثال يتفرج على المدن الغارقة.. لربما لعن هو الآخر من أخرجه من ظلمة القبو..
إلى شوارعنا التي تغرق في الوحل والأمطار ومياه المجاري.. هي ذات الشوارع التي غرقت ذات حلم في هتافات الثائرين الغاضبين.. هي ذات المدن تغرق كل يوم في زحمة السير والشتم واللعن
لا نحن نلتفت إلى التمثال ولا التمثال يعرفنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.