شعار قسم مدونات

الفيسبوك اختراع عربي

blog فيسبوك

السيد مارك زوكربيرغ ليس عربيا، ولو ظل العقيد معمر القذافي يعيش بيننا، لاخترع له اسما عربيا، مثل "الشيخ زبير" الذي كان العقيد الراحل يعتقد أنه هو الاسم العربي الحقيقي لوليام شيكسبير، واحد من أعظم الكتاب والشعراء والمسرحيين الذين أنجبتهم البشرية.
 

إن ما جعل العرب يرون في شكسبير قطعة منهم هو فنه وإبداعه الذي مازال يلهم الملايين عبر العالم.
 

لعل تسمية الشعر بأنه ديوان العرب، جاء من اعتباره منتداهم وملتقاهم ومجلسهم، الذي يجتمع فيه الشعراء للمبارزات الشعرية

فقبل أن يوجد السيد مارك زوكربيرغ، كان للعرب فيسبوكم الخاص الذي هو الشعر، ومنصتهم الكبيرة التي كانوا يلتقون فيها وعبرها عبارة عن أسواق اشتهرت في تاريخ العرب مثل سوق عكاظ وسوق مجن وسوق المربد.. أي ما يقابل اليوم فيسبوك وتويتر وانستغرام.. فأسواق العرب القديمة كانت كلها عبارة عن منتديات أدبية وفكرية وسياسية لعبت أدوارا مهمة في تاريخ العرب وحياتهم الدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
 

فالعرب لم تكن أمة كاتِبة، ورَسولهم النبي محمد لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وكل ثقافتهم قبل الإسلام كانت "صوتية" يدونها الشعراء وتنتشر بين الناس عبر الرواة والحفظة من خلال المنصات الاجتماعية في ذلك الزمان التي كانت تسمى أسواقا.

فقد كان يقال بأن الشعر هو ديوان العرب، به حفظت العرب أنسابها وتاريخها وعرفت مآثرها وأخبارها.
 

وأول وأشهر منصة اجتماعية عند العرب كانت هي "سوق عكاظ"، الذي يقال أنه سمي كذلك  لأنّ العرب كانوا يتعاكظون فيه أي يجتمعون فيه حتى يزدحم المكان بهم ويحبسون على أنفسهم داخله للتعاكظ فيما بينهم.

  فهو لم يكن فقط سوقا تجاريا وإنما أيضا منصة للتفاخر والتناشد والتحاجج والتجادل يتوافد إليه الشعراء من كلّ حدب وصوب ليلقوا قصائدهم أمام الناس بهدف التباهي والتفاخر يتناشدون بالشعر ويتحاججون به، وقد  أدى ذلك إلى نشوب الحروب بينهم في كثير من الأحيان. ويقال أن الإسلام قضى على هذه السوق بسبب ما كان يحمله من فرقة وبغضاء بين الناس ومن عادات مجتمعيّة سيئة جلبت الحروب والويلات على الناس.
 

ولعل تسمية الشعر بأنه هو ديوان العرب، جاء أيضا من اعتباره منتداهم وملتقاهم ومجلسهم، الذي يجتمع فيه الشعراء للمبارزات الشعرية، ولإلقاء أشعارهم، فهو كان بمثابة مجال للتباري والنقاش، ويمكن أن نشبهه اليوم بـ "المنتدى"، وقد كان هو الآخر "منتدى افتراضيا" مثله مثل المنتديات الافتراضية في أيام الناس هذه.
 

وحتى الكتابة العربية عندما بدأت كانت تدوينية،  بدأت بتدوين القرآن والأحاديث، وبعد ذلك تدوين الأخبار، قبل أن تنتقل إلى التأليف والتصنيف والترجمة، وتبلغ مرحلة الكتابة كفعل يحتاج إلى التفكير. وأول وأشهر من تٌنسب إليهم صناعة الكتابة عند العرب، هو عبد الحميد بن يحيى، الذي اشتهر باسم عبد الحميد الكاتب، لأن الكتابة كانت صناعة (أي وظيفة حسب عصرنا الحالي)، لا يتقنها إلا الكتاب، وعبد الحميد كان أول كاتب في عهد الدولة الأموية. وينسب إليه وضع قواعد "صناعة" الكتابة.
 

العرب كما قال عبد الله القصيمي ظاهرة صوتية، ليس قدحا وإنما وصفا لأمة اتخذت من الشعر ديوانا لها، أي سجلا لتاريخها وأخبارها.

أما ما نشهده اليوم على منصات المواقع الاجتماعية، وأشهرها فيسبوك، فقد حوله بعض رواد هذه المنصات العرب إلى أسواق عربية "شعبية" للتفاخر والتباهي والتنابز والتناحر، مع فارق كبير وهو لغة ومستوى النقاش الذي يصل أحيانا إلى مستويات لا تشرف الثقافة العربية التي صنعت من الشعر ديوانا لها، لدرجة قد يعتقد البعض معها، ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة، بأن المواقع الاجتماعية إنما خلقت من أن تشغل العرب وتصرفهم عن فعل ما هو أهم وأنفع. فقد أتبثت الكثير من الدراسات أن أغلب مستخدمي الفيسبوك إنما يستعملونه لتجزية الوقت.
 

والعرب كأمة متهمة، إلى أن تثبت العكس، بأنها لا تعير  اهتماما بعامل الزمن، هي أكثر هدرا له من غيرها من الأمم.
 

وإذا استثنينا صفحات بعض رواد هذا الفضاء الأزرق من الأسماء المؤثرة في محيطها ومجال اهتماماتها سنجد أن الأغلبية الكبيرة من رواد هذه السوق الاجتماعية الافتراضية يشكلون الكتلة السلبية الكبيرة المستهلكة.
 

وبصيغة أخرى، لو لم يخترع مارك زوكربيرغ الفيسبوك لاخترعه العرب، لا أسوق هذا الكلام من أجل التبخيس أو التهكم، كما لا أسوقه فقط لأن نصف العرب اليوم هم من مستخدمي الفيسبوك، أي أكثر من مائة مليون عربي وجدوا ضالتهم فيه، أي ما افتقدوه من سليقة فطروا عليها.

فالعرب كما قال عبد الله القصيمي ظاهرة صوتية، ليس قدحا وإنما وصفا لأمة اتخذت من الشعر ديوانا لها، أي سجلا لتاريخها وأخبارها. أما اليوم يمكن أن نصف، على الأقل نصف العرب، بأنهم تحولوا إلى ظاهرة فيسبوكية، والمصطلح هنا يصلح للذم كما للمدح حسب استعمال الشخص لحسابه الخاص في الفضاء الأزرق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.