شعار قسم مدونات

الأخلاق والحرية (2)

blogs - people

تناولنا في الجزء السابق الحرية كمعيار لتقييم الفعل الأخلاقي، أي اعتبار أن الأخلاق ذات قيمة ومعنى عندما تكون صادرة عن إنسان حُر، غير خاضع لأي نوع من أنواع الإكراه. وأوضحنا أن هذه الحرية المفترضة هي أمر غير واقعي، لأن الوعي والضمير الأخلاقي يتشكل بواسطة التاريخ والثقافة، وبالتالي فإن الإنسان ليس حراً في خياراته بالمعنى الذي قد توحي به الكلمة، بل هو خاضع لإكراهات الثقافة والتاريخ. فالأخلاق بما أنها سُلطة، فهي -بالتعريف- مناقضة للحرية.

 

ما معنى هذا الكلام؟ هل معناه أن "الإنسان الفاضل" هو في النهاية مجرد إنسان مُكره على الفضيلة بواسطة الوعي الثقافي والتاريخي؟

الاجابة هي نعم، طالما أن الأخلاق هي سلطة يفرضها الوعي على الإنسان. ومعنى ذلك أن الحرية لا يُمكن أن تضفي على الأخلاق أي قيمة أو معنى، لأن الحرية في هذا السياق هي مجرد افتراض رائع لكنه غير موجود، وغير ممكن.

  

حينما نقرر أن نعطي القيمة أو المعنى لفعل أو لشيء ما، لا نفعل ذلك لأننا نملك دائماً إرادة حرة قادرة على صناعة التقييم وخلق القيمة والمعنى، وإنما نفعل ذلك أحياناً بدوافع مختلفة، منها المصلحة

إن ما نسميه بالفعل الأخلاقي الحر، ونعني به الفعل الأخلاقي بمعزل عن تأثير السُلطات الملموسة المتجسدة مادياً مثل الحكومة وقوانينها، أو المجتمع وأعرافه، أي أن يكون الإنسان أخلاقياً لأن وعيه الخاص، عقله أو/وضميره يُملي عليه ذلك، هو في الحقيقة ليس فعلاً حراً إلا بشكل ظاهري.

 

ما هو الفرق إذاً بين الإنسان المُرائي الذي يلتزم أخلاقياً بدافع الخوف من السلطات وبين الإنسان الذي يلتزم أخلاقياً لأن وعيه الذاتي يُملي عليه ذلك؟ الفرق الوحيد هو أن الوعي الذاتي بالنسبة للأخير قد حلّ محل السلطات الخارجية، وهو يقوم بالإلزام الذاتي نيابة عنها.

إننا حينما نعلي من الالتزام الأخلاقي الذاتي، ونحط من قيمة الالتزام الناتج عن الإكراه الخارجي، فنحن نمارس عملية تقييم. نحن الذين نقرر أن الالتزام الأخلاقي الذي يفرضه الوعي الذاتي يحمل قيمة حقيقية ومعنى، بينما الالتزام الذي تمليه السلطات الخارجية هو بلا قيمة حقيقية وبلا معنى.

 

ولكننا نتجاهل بذلك حقيقة أساسية، هي أن الوعي الذاتي نفسه قد تشكل بفعل السلطة الخارجية ذاتها التي تملي الأمر الأخلاقي، ونتجاهل كذلك حقيقة أن التقييم بحد ذاته، ليس فعلاً حراً بالضرورة. بمعنى أننا حينما نقرر أن نعطي القيمة أو المعنى لفعل أو لشيء ما، لا نفعل ذلك لأننا نملك دائماً إرادة حرة قادرة على صناعة التقييم وخلق القيمة والمعنى، وإنما نفعل ذلك أحياناً بدوافع مختلفة، منها المصلحة. وهنا أيضاً يلعب كل من تاريخ وثقافة المجتمع دورهما في التقييم نفسها، فالإنسان الذي يمارس التقييم يعبر في النهاية عن وعي اجتماعي تاريخي وثقافي محدد، بل قد يعبر عن حاجات المجتمع المادية الواقعية المباشرة.   

 

الصدق والأمانة والإخلاص كقيم أخلاقية على سبيل المثال، تأخذ قيمتها بموجب مبدأ التقييم ليس بالضرورة لأن الإنسان قد قرر أن يعتبرها فضائل بملء إرادته، ولكن لأنها صالحة وضرورية للحياة الإنسانية. وذلك على الرغم من ادعائنا الكبير باحتقار منطق المصلحة والمنفعة.  

 

ونحن قد نعتبر أن الصدق مثلاً هو شيء ذو معنى وقيمة حتى لو كان لا يحقق المنفعة للإنسان الصادق، ولكن هذا لا يعني أن تقييمنا للصدق بحد ذاته كفضيلة ولكل الفضائل الأُخرى غير خاضع لمنطق المصلحة، لأن الصدق ببساطة إذا لم يكن في مصلحة فرد بعينه فهو -ولهذا السبب بالذات- في مصلحة الآخرين أو المجتمع ككل. فكل هذه القيم التي أعطاها الإنسان صفة النُبل، هي كذلك لأنها تحقق المصلحة للآخرين، حتى لو كانت تضر بأصحابها.

 

ولكننا لا نحب أن نشير إلى الضرر الذي تلحقه هذه القيم بأصحابها، ربما بسبب الخجل من ذلك. مثلاً لا نستطيع أن نقول إن الصدق ضار أحياناً، وأسوأ من ذلك أن نقول إن الإخلاص قد يكون ضاراً بصاحبه. نحن لا نحب مثلاً أن نعتقد بأن "الجود يفقر والإقدام قتّالُ". لا نستطيع أن نقول ذلك ليس بسبب كون هذه القيم مقدسة بحد ذاتها، وإنما لأن الضرر الناتج عن الالتزام بهذه القيم بالنسبة لنا، هو مصلحة بالنسبة للآخرين. فهُناك طرف متضرر وطرف آخر مستفيد. وعموماً مقياس الفائدة بالنسبة للقيم هو المجتمع وليس الفرد، ومصلحة الآخرين، أو مصلحة المجتمع هي معيار أساسي في تقييم الأفعال.

 

الفرد قد تتم مكافئته معنوياً من قبل المجتمع، أو يكافئ هو نفسه معنوياً بنفسه من خلال القيم الأخلاقية التي يقدسها المجتمع المعين، فالأخلاق هُنا بالنسبة للفرد تكون وسيلة للحصول على المعنى في الحياة.

 

الإنسان الحر بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة يُوجد فقط عندما تكون أفعاله مبررة خارج إطار السببية والغائية، وطالما أننا موجودون في هذا العالم فلا يُمكننا الإفلات من الغائية والسببية

 إن المعنى كما ذكرنا في المقال السابق مرتبط بمبدأ التقييم من هذه الناحية، فالإنسان الذي تفشل خياراته في اختبار التقييم قد يشعر بالتفاهة واللامعنى. ولذلك في سبيل الحصول على، المعنى يضحي الإنسان بالمنفعة المباشرة، بل قد يضحي بنفسه. ولكنه لا يحب أن يعترف بأن المعنى هو أيضاً شكل من أشكال المنفعة. حيث لا يسمح له غروره بذلك، فهذا الاعتراف يُعتبر تتفيهاً للأشياء ونزعاً للمعنى وللسحر من الحياة.   

  

وبالعودة إلى قضية الحرية، فعندما نقوم بالأفعال التي تحقق مصالحنا، لا يُمكننا أن نتفاخر بأننا نقوم بذلك عن حرية ودون إكراه، ولا أن نطالب بالمكافأة على ذلك. وكذلك عندما نؤدي للآخرين -في إطار التبادل- حقوقهم علينا ومصالحهم، أو عندما نخضع لضميرنا المثقل بالإكراهات الخارجية العليا: " يجب عليك". وهناك جزء مبتور من هذه العبارة تقديره " وإلا…". عبارة الواجب هذه شكلها الكامل هو " يجب عليك، وإلا…" فليس هُناك أي حرية في الأمر.

 

ولكننا نحب أن نشكر أنفسنا وأن نتبادل الشكر مع الآخرين، على الواجبات المتبادلة كنوع من اللطافة. وذلك بسبب أن هذه الحياة لا تُطاق لولا هذه اللطافة، فالصدق هُنا ليس فضيلة على الإطلاق، بل هو بل هو قيمة مضادة للحياة نفسها، وهذا أيضاً نوع من التقييم الذي نمارسه. ولو لم يكن الانسان قد اخترع الكذب ضمن بقية القيم الكثيرة والعظيمة التي اخترعها لكانت هذه الحياة شيء في غاية الصعوبة، ككل الأشياء الصادقة.

 

إن اختبار الحرية الحقيقي غير موجود، وغير ممكن طالما أن هُناك تبعات -نافعة أو ضارة- لهذه الحرية. الإنسان الحر بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة يُوجد فقط عندما تكون أفعاله مبررة خارج إطار السببية والغائية، وطالما أننا موجودون في هذا العالم فلا يُمكننا الإفلات من الغائية والسببية حتى في أكثر أفعالنا الحُرة حريةً.

 

فمجرد وضع الإنسان أمام خيارات لا يعني الحرية، طالما أن هذه الخيارات لها ما بعدها. والحرية المؤسِسة للأخلاق هي حرية من هذا النوع: افعل ما تشاء، وسيترتب على ذلك مكافأة وعقاب، ولك أن تختار. وهذا في الواقع ليس تخييراً بالمعنى الكامل لهذه الكلمة.

يتبع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.