شعار قسم مدونات

في حلب.. ليالٍ كأنهنّ القيامة

The inhabitants of the eastern neighborhoods of the northern city of Aleppo are seen inspecting their belongings and houses, Syria, on 14 December 2016. The Syrian army claims they have managed to expel rebels from almost 99 percent of the eastern neighborhoods that have been under the rebels’ control since 2012.

أحد أكثر المشاهد خلودا في رواية البؤساء كان ثبات الثوار في معركة المتراس، حين راكموا الطاولات المحطمة، والكراسي التي لن يعود أحد ليجلس عليها بعد المعركة، ونصبوها أمام قوات الجيش المدجج. كانت أسلحتهم سخيفة، ومعركتهم خاسرة، وموتهم عبثيا بمقاييس قاصري الفهم، لكن الثائر، في لحظة ما، يفهم كل شيء ويدرك كل شيء ثم يحتضن الموت بجسارة وجذل غير مفهومين.

 

كنت أعجب من هذا المشهد، ولا أزال، ورغم أن الكتب والذاكرة الشعبية تسوق شواهد مماثلة، إلا أنها تاريخ حدث في زمن بعيد حتى ليظن الواحد أن زمن البطولات المستحيلة قد ولى. لكن عصبة مستحيلة في حي الكلاسة بحلب ثبتت اختيارا في مواقعها ضد التخمينات والاحتمالات وبادت عن بكرة أبيها، وهؤلاء لا تكفيهم لغة ولا كلمات نغترفها من بحار المجد.

 

هذا ليس إلا شاهدا وحيدا للبطولات التي تُسطر في حلب، والحديث عن بعضها ليس إلا تلميحا لأخرى، كالطبيب الإنسان عماد الشهابي الذي رفض الخروج من مشفاه في أيام القصف المستحر على المشافي عمدا وتعمدا، واستمر في علاج المصابين حتى عندما أُصيب هو نفسه، محرجا تعريفات عديدة في المعجم لمعاني الشرف والتفاني وإنكار الذات.

 

وماذا عن "القبعات البيضاء"؟ صورة لأحد أولئك الملائكة الذين أنقذوا الآلاف من تحت الأنقاض ومن بين النيران، وهو متعلق برافعة نازلا نحو صوت كتمه الهدم والخراب، وكأنه ضوءٌ ينفذ من شق. هؤلاء الأبطال لم ينالوا جائزة نوبل للسلام التي نافسوا عليها مؤخرا، لكن هذا لا يهمهم حيث يستمرون في عملهم بلا جوائز سوى إنقاذ المزيد من الأرواح.

 

نحن الذين يأكلنا العجز المر، والألم الحارق، والذين نرضى بكلمات تواسي شعورنا المرهف، قبل أن نعاود حياتنا العادية الرتيبة

وماذا عن الأهالي، حاضنة الثورة الشعبية التي تحملت لست سنوات شرورا تكفي عالما بأسره، وجربت الموت بكل الطرق الممكنة، وظلّت تنتظر فرجا أخّره الأصدقاء، حتى سقطت المدينة بعد أن أنهكتها حرابٌ كثيرة.

 

وهل يكفي الحديث عن المعجزات والمستحيلات التي تسجل هناك إلا لنا، نحن الذين يأكلنا العجز المر، والألم الحارق، والذين نرضى بكلمات تواسي شعورنا المرهف، قبل أن نعاود حياتنا العادية الرتيبة؟ هل نفعل ذلك إلا هربا من المسؤولية أمام الله والتاريخ والذاكرة؟

 

ما الذي تفعله اللغة أمام البندقية؟ ليس هذا سؤالا معجزا أو ملغزا، فليس ثمة كثير أمر تفعله سوى وضع الذكريات للاحقين، أما الآن، فلا شيء. ولنذكر النكسة التي نعرف طعمها الحامض في القصائد، ونكسات أخرى ضج بها التاريخ سجلتها اللغة في أوراق فتتها الزمن وألقاها في مهب الرياح.

 

لم تُهزم حلب بمعايير صحيحة، ولم تسقط لو كان هناك عدل في الخصومات والحروب، فحلب انتصرت على عدوها الحقيقي، وهزمت نظام الأسد في كل مكان، وأهل الأرض مرغوا أنف النظام في التراب، قبل أن يستدعي بدوره أعداء مستعارين من المشارق والمغارب. ومن يلوم الثورة في أنها جرت الخراب لسوريا، ليتذكر أنها ظلت سلمية ستة أشهر كاملة تشرب دمها بصمت، فهل أغنت عنها السلمية شيئا؟

 

لنتحدث عن احتمالات لم تحدث.. لو كانت بندقيةً لبندقية، وسيفًا لسيف، ورجلا لرجل، لكان هناك تاريخ آخر يُكتب هذه اللحظة، لكن البندقية لا تُسقط الطائرة النفاثة، والنصل لا يخترق المدرعة، ومن هنا كانت خيانة الصديق وطعنته الغادرة!

 

اليوم لا يُدرى أي صبحٍ وليلٍ يأتي على حلب، المدينة محاصرة تماما، ومئة ألف مدني يحيط بهم الموت بإتقان لعين. هل هناك ما يمكن أن يوصل هذه المعلومة للعالم فيفهمها، أيا يكن هذا الكيان الهلامي الذي نلقي عليه بمشاكلنا، وهو لا يجيب. ألا يملك العالم وجها لنصفعه، أو مؤخرة لنركلها؟

 

قدرُ حلب اليوم أن تكون وحيدة والعالم أحلافٌ، ترتعش بردا والدفء بالجوار، تختنق والهواء ينسلّ بعيدا، تموت والحياة تزورّ بوجهٍ عابس. ليست هذه محاولة للكتابة بمجاز، فالفرق امّحى بينه وبين الحقيقة في حلب، في حالة فريدة من تاريخ البشرية المؤلم.

 

سلاما على حلب، وعلى مدنيي حلب، وعلى ثائري حلب. سلاما على العصبة المؤمنة المحاصرة، وعلى الخائفين، وعلى الجرحى. سلاما على من مات، ومن ينتظر وما بدل

اليوم، يحيط العدو العديد بالقليلين، يشير إلى العدو إصبعٌ فيُتهم الإصبع بالطائفية، بينما يمارس العدو قتلا طائفيا بامتياز! إيران تعطل اتفاقا كان قد تم بين الأتراك والروس يقضي بخروج من تبقى من المدنيين والجرحى إلى ريف حلب، تريد إيران ذبح "قتلة الحسين"، وتريد فعل هذا بسيف "يزيد"!.. لعنةٌ واحدة لا تكفي لنلقيها على هكذا فهمٍ سقيم.

 

اليوم ونحن نترقب بيأس ما تحمله لنا الأخبار من هناك، ندرك يقينا أن عجلة التاريخ دائرة لم تتصلب بعد. قد يخسر الحق جولةً، وينتصر لاحقا، وقد يخسر للأبد وفي النفوس رجاء بأن لا تكون هذه خسارة أبدية أخرى للحقيقة. ربما يخرج المدنيون، إلى الريف وربما يصر العدو على قتلهم، وفي الحالتين سيبقى العار على وجهنا أنْ لم تكن هبّة من "الأصدقاء" ضد اللياقات السياسية، وضد الحسابات المعقدة، هبّةٌ تقلب الموازين، وتشدّ أزر السيف بالسيف، وتحفظ الجغرافيا والتاريخ ممن يمسهما بالسوءات.

 

ما أقل الكلام، ما أقلّه. كم اقترب فهمنا ليوم القيامة ونحن نشاهد حلب، خبرا في تلفاز، وتغريدة في تويتر، ورعبا في صورة! ما أقل اللغة.

 

سلاما على حلب، وعلى مدنيي حلب، وعلى ثائري حلب. سلاما على العصبة المؤمنة المحاصرة، وعلى الخائفين، وعلى الجرحى. سلاما على من مات، ومن ينتظر وما بدل. لو كانت هذه هزيمة ففي مرآتها يكون النصر، ولو كان موتا فلتكن من بعده الحياة، والله غالبٌ على أمره، بيد أنه لا اعتذارات تكفينا لأجل الحق الذي لم نوفّه.

 

ظلماتٌ وغارةٌ تلو أخرى

وليالٍ كأنهنّ القيامة

..

حلبٌ أوّلُ الحضاراتِ تدمى

يا حضاراتُ أطرقي كلّ هامة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.