شعار قسم مدونات

يوم كان الجهاد في ألمانيا.. حلالاً

blogs - paper

ما أعجب الزمان وتقلّباتهِ، فقبل أيام قليلة اُغلقت إحدى المؤسسات الدعويّة الإسلامية الناشطة في توزيع المصاحف في ألمانيا بحجة تحريضها الشباب على الجهاد والإرهاب، وهو ما يُشكك به كثيرٌ من المتابعين، والتاريخ حافلٌ بتُهم باطلة كما أنه حافلٌ بالأعاجيب، وبالأخص عندما نتحدث عن تاريخ هذا البلد مع الجهاد والمجاهدين وكيف كان الألمان من أكبر الدُعاة للجهاد يوماً ما!  
 

قبل 100 عام ٍ فقط، حكم بلاد الألمان رجلٌ أطلق عليه أهل الإسلام لقب « الحاج محمد وليم الثاني» من شدّة حُبهم له وامتنانهم بصداقته حيث استقبلوه عام 1898 في القُدس استقبال لم يحظ به ملك من ملوك اوروبا في التاريخ، بل إن بعض أجدادنا كانوا واثقين بأن الملك الألماني فيلهيلم الثاني قد دخل الإسلام، كيف لا وهو الذي زار ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي وراح يذكر مناقبه وهو الذي وقف مع الدولة العثمانية في حروب البلقان، هذا غير أنه لم يُعامل أسرى المُسلمين أحد بإحسان كما عاملهم هذا الملك بل وبنى لهم مسجداً .. هذا ما كان يُشاع يومها حتى راح المُسلمين يدعون الله بأن ينصر الحاج محمد وليام، هذا غير وابلٍ من مقالات المدح والتبجيل التي كتبتها الصُحف العربية حينها ويذكرها د.عبد الرؤوف سنّو في كتابه البديع: "ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين".
 undefined

في حاشية "الحاج محمد" كان هناك داهيةٌ يُدعى ماكس فون اوبنهايم Max von Oppenheim  يعيش في مصر ويعمل فيها كعالم آثار ودبلوماسي رفيع المستوى، وكان مُنبهراً بالشرق وفنونه فأجاد العربيّة وأتقنها كما ربطته بالعرب علاقات وطيدة ولكن عشقه للرايخ الألماني كان أقوى، فراح يُسخّر كُل معارفه في سبيل بلاده، وما إن احتدمت العلاقات مع بريطانيا وفرنسا عشيّة الحرب العالمية الأولى حتى أدرك أهمية الإسلام والجهاد في زلزلة عرش بريطانيا وفرنسا ومستعمراتها في بلاد يعيش فيها 300 مليون مُسلم، وراح يُعد العدّة لإعلان الجهاد بمُباركة القيصر!
 

لُقب اوبنهايم Oppenheim  حينها بالأب الروحي للجهاد الإسلامي، فهو القائل: "إن الإسلام سوف يكون أهم أسلحتنا على الإطلاق في الصراع ضد إنكلترا" وهو الذي كان يروّج للشائعات بأن فرنسا تُخطط لهدم الكعبة ونقل "الحجر الأسود" إلى متحف اللوفر وعلى المُسلمين أن ينهضوا لحماية مُقدساتهم، وبالطبع لم يكن الأمر مُجرد كلام وشائعات ففي عام 1915 استقطبت ألمانيا عددٌ لا بأس به من المُسلمين إلى برلين للمُساهمة في حملة إعلان الجهاد، وبحسب وثائقي "جهادٌ من أجل القيصر" – بالألمانية Dschihad für den Kaiser –  الذي عُرض على قناة ZDF الألمانية، فقد كان هناك حوالي 60 إعلامي وعالم مسلم يعملون في "مركز الجهاد" في برلين، وكانت "وكالة أنباء الشرق" هي أبرز الوكالات التي كانت تُصدر التقارير والخطابات والرسائل لتحريض المسلمين على الجهاد، ولم ينحصر الأمر بالإعلام فقد زوّدت ألمانيا الثوّار في العالم الإسلامي بالأسلحة كما ساهمة في تفجير عدد من أنابيب النفط الإنجليزية في الشرق الأوسط وهو ما تسبب بخسائر فادحة!
undefined 

حتى المساجد وُظّفت حينها ضمن هذه "الحملة الجهادية" حيث أمر القيصر الألماني ببناء مسجد للأسرى المُسلمين الذين كانوا يُحاربون مع إنجلترا وفرنسا ضد ألمانيا والدولة العثمانية وكي تكسب عطفهم،  قامت باستدعاء رجال الدين إلى هذا المعسكر كي يخطبوا فيهم الخُطب الجهادية الحماسية التي من المفترض أن تحثهم على الانضمام للجبهة ضد الكفار من الإنجليز والفرنسيين، كما صدرت مجلّة تُسمى "الجهاد" بأكثر من لغة شرقية وكانت موجهة لهؤلاء الأسرى وكانت أهم أهدافها كذلك الحث على الجهاد والحفاظ على الخلافة العثمانية وتعظيمها بأعينهم!
 

فشلت حملة "الجهاد الألماني"، ولكن الدعاية الإنجليزية التي كان يخوضها "لورنس العرب" نجحت بشكل مُبهر حينها، ويعتقد الألمان أن سبب فشل الحمل كان في مُراهنة أوبنهايم على الحميّة الدينية لدى المُسلمين بينما الإنجليز لعبوا على وتر "الحريّة" وليس هذا فحسب فيبدو أن هناك ما كان يشغل العرب أكثر من "الدين" حينها، وهو الأموال الإنجليزية التي كانت تُدفع بسخاء إلى شيوخ العرب كي يدفعوا الشباب إلى الجهاد مع بريطانيا العظمى!
 

وللتأمل فقط، فإن الجهاد لم يعد اليوم حلالاً ولا حتى حراماً في هذه البلاد.. بل أصبح تُهمة حتى لمن ليس له فيه ناقةُ ولا حتّى جمل ولمجرد الاشتباه به فقط.. بعد أن كانت ألمانيا نفسها توظّف كُل طاقتها في حث المُسلمين عليه قبل 100 عام.. فسبحان مغيّر الأحوال، سبحان الله!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.