شعار قسم مدونات

القائد.. موسيقى الحصار

شوستاكوفيتش

كانت الحياة تذبل في المدينة التي بناها بيتر الكبير "سان بطرسبرج"، والتي أرادها عاصمة لإمبراطورتيه الفتية آنذاك، ونافذةً روسية على أوروبا الملهمة بفنها وعمرانها، زينها بقصور فرنسية الطراز، لتمر منها فنون أوروبا وثقافتها إلى روسيا، قبل أن تُدَوِّي فيها مدافع البارجة آفرورا معلنة بداية الثورة الروسية وتبدل أحوالها واسمها، إذ كانت مسقط رأس لينين، فحملت اسمه، وخلال الحرب العالمية الثانية، حاصرها الألمان بَرًّا بقسم هتلر بمحوها عن الوجود.

 

خسرت المدينة أكثر من نصف سكانها خلال حصار دام أكثر من ٩٠٠ يوم، نزح خلالها من نزح، وهلك من هلك، وتعلق الخراب على كل شرفة ونافذة. حتى وصلت حصة كل فرد من الطعام الذي توزعه السلطات خلال شهور الحصار إلى أقل من ٢٠٠ جرام من الخبز. 

 

خلال شهور الحصار، كتب الموسيقي الروسي شوستاكوفيتش حركاته الثلاث الأولى في سيمفونيته السابعة، قبل أن يستجيب لضغط زوجته وأولاده وينزح من المدينة مع النازحين.

 

ولد ديميتري شوستاكوفيتش عام ١٩٠٦، أي قبل الثورة الروسية بأحد عشر عاما، وقبل الحصار بخمس وثلاثين سنة، بدأ دراسة الموسيقى في الثالثة عشر من عمره، وتحققت شهرته الفنية مبكرا.

 

بعد الثورة، مُنعت الألحان الغربية، وأراد ستالين أن تكون موسيقى روسية خاصة وخالصة لها، شعبية وثورية، كانت حماية الثورة تقتضي تأمينها من غزو الفنون قبل غزو الأفكار، إذ تبدو الأفكار عدوا يمكن منازلة أصحابها، أما الفنون التي تغزو المشاعر بهدوء وتمويه، فالسيطرة عليها صعبة لأنها خفية، ما وضع عشرات المؤلفين على القائمة السوداء مثل سترافينسكي الذي هرب إلى باريس وبروكوفييف ورخمانينوف اللذين اضطرا أيضًا للهرب بعد التضييق عليهما.. ولم يكن شوستاكوفيتش بعيدا عن مصير هؤلاء، إذ كتبت صحيفة برافدا بعد نشر معزوفته "ليدي ماكبث من ضاحية متزنسك" بأن الأوبرا برجوازية، تبتعد عن الموسيقى الشعبية.

 

أكمل شوستاكوفيتش كتابة سيمفونيته في سامارا جنوبي روسيا، وسربت نوتاته إلى داخل المدينة المحاصرة. وقررت السلطات السوفيتية رفع الروح المعنوية لسكان المدينة المحاصرة بعزفها

استطاع شوستاكوفيتش أن يُنقذ نفسه من غضب ستالين الذي يتشكك في نوايا الموسيقى المموهة، بسمفونيته الخامسة التي حشد فيها كل ما تريد الثورة سماعه مكررا فيها ألحانا سابقة له بنمط جديد، ومكررا في نفس السيمفونية النوتات بشكل بدا غريبا عن نمط تأليفه المعهود كأنه إلقاء للألحان في الوجوه.

 

قبِل ستالين توبته الرمزية.. وعاش إلى حين.

 

ومع حصار لينين جراد، بقي شوستاكوفيتش أول الأمر كما أسلفنا مدافعا عن مدينته، قبل أن يخرج ويبقى فيها كارل اليزبيرج الذي كان عازف كمان، يعمل في الإذاعة السوفيتية.

 

أكمل شوستاكوفيتش كتابة سيمفونيته في سامارا جنوبي روسيا، وسربت نوتاته إلى داخل المدينة المحاصرة. وقررت السلطات السوفيتية رفع الروح المعنوية لسكان المدينة المحاصرة بعزفها، ووقعت المسؤولية على كارل الذي لم يبق من فرقته إلا خمس عشر عازفا فقط، كلهم جوعى يلفهن البرد والخوف.

 

هكذا تبدو حكاية السيمفونية السابعة لشوستاكوفيتش باختصار لمن يبحث عنها، إلا أن التاريخ إذ يدون الأحداث المجردة كما يقول فيكتور هوجو فإنه يترك حياة الناس للروائيين ليسجلوها، هذا ما فعلته الروائية النيوزيلاندية المولد، سارة كويغلي في روايتها The Conductor المنشورة عام ٢٠١١، والتي استلهمت قصة السيمفونية، لتدون طرفا من حكاية لينين جراد وعازفيها.

 

تبدأ الرواية في ربيع عام ١٩٤١ والمدينة بعد لم تسقط في الحرب، ترسم لوحة من حياة الناس فيها، ترافق الملحن والعازفين وقائدهم الذي أتيحت له فرصة ستنقله من الصف الثاني إلى قمة العظمة يرتب صفوفهم، معلقا مستقبله في طرف عصاه. نافخة روحا جديدة في التفاصيل القليلة التي وصلت عن الشخصيات والأحداث، كاسية التاريخ تفاصيل إنسانية وسط ركام المدينة المحاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.