"جنين".. الفيلم الذي انتصر على الاحتلال الإسرائيلي

طفلة "جنين.. جنين" التي وعدت بالمقاومة أمام الكاميرا هي الآن امرأة ثلاثينية تقاوم، والطفل الذي ولد بينما تنزف قدما أمه نتيجة رصاصتين من بندقية محتل، يقاوم الآن، أما أبناء الذين غطتهم أنقاض بيوت جنين 2002 فهم يواجهون النار بالروح نفسها في جنين 2023

فيلم (Jenin (2003
فيلم "جنين" (الجزيرة)

وقفت إسرائيل بضباطها ومحاكمها في مواجهة فيلم وثائقي لا تتجاوز مدة عرضه الساعة الواحدة، وظلت تحاربه وتصادر حرية مخرجه الفلسطيني محمد بكري لعقدين من الزمان، ورغم ذلك استطاع الفيلم أن يحمل رسالته إلى العالم كله في الوقت الذي منع عرضه في أرضه لنحو لأكثر من 20 عاما.

فيلم "جنين.. جنين" قدم للعام صورة من الواقع الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية العمياء من قتل ودمار ويأس من فكرة السلام التي طالما تغنى بها قيادات إسرائيل.

لم يقدم الممثل العالمي والمخرج محمد بكري في وثيقته الفيلمية أي نداء للمقاومة أو الرد بعنف على المذبحة الإسرائيلية في مخيم جنين التي تتكرر اليوم، ولكنه قدم مقولة واحدة داخل الفيلم، وهي أنه ينبغي أن ينتهي هذا الاحتلال حالا، ودعم مقولته بصورة لنفوس وأرواح كان ينبغي أن تكسرها المجزرة الإسرائيلية طبقا لحسابات من أمروا بها، لكن الفيلم أظهر ذلك القدر المدهش من الصلابة والشجاعة والتعايش مع الحديد والنار التصاقا بالأرض وتمسكا بها.

جنين الحكاية

تعود حكاية جنين إلى العام 2000 بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية واندلاع الانتفاضة الثانية، التي واجهتها إسرائيل باجتياح الضفة الغربية بالكامل وبينها مخيم جنين، لتدمر البيوت وتقتل العشرات من الفلسطينيين بين طفل وامرأة ورجل عجوز وشاب وحتى الجنين في رحم أمه.

قدم بكري وثيقة إدانة للضمير الإنساني كله بسبب الصمت والتواطؤ مع المحتل على كتم الصوت المنادي بالحرية وإزهاق الروح الحرة في المخيم، ليبقى أبريل/نيسان 2002 لحظة يكللها العار في عالم يزعم انتماءه لقيم الحرية وينادي بحقوق الإنسان في كل بقعة على الأرض باستثناء فلسطين.

الممثل العالمي والمخرج الفلسطيني محمد بكري لا ينتمي للمعسكر المقاوم بالسلاح، ولا ينادي بأي عمل مسلح ضد الاحتلال، على العكس، فالرجل يكرر دائما انتماءه لأولئك الذين ينادون بالسلام، ويطالب بالارتقاء وصولا إلى الجلاء عن الأراضي الفلسطينية دون حروب.

ولعل جزءا من رؤية بكري يكمن في تعرض مستوطني الأرض المحتلة لعملية خداع تدفع بهم إلى أتون حروب، وذلك من قبل مؤسسات تقود الشعوب إلى الدمار لمصالحها الخاصة، وهي رؤية تتفق مع جزء كبير من النشطاء اليهود أنفسهم داخل الأرض المحتلة، ولعل ذلك ما يفترض أن يجعل الرجل يقف في مساحة آمنة نسبيا من الاستهداف الإسرائيلي، لكن ذلك الموقف لم يشفع له، إذ جاءت بساطة الفيلم ولغته البصرية البسيطة والواضحة بمثابة "ألف عملية استشهادية" طبقا لوصف الصحافة الاسرائيلية.

لغة بصرية مدهشة

رغم المباشرة التي تميز الفيلم الوثائقي بطبيعته باعتباره توثيقا لوقائع حقيقية، فإن اللغة البصرية والتجسيد والمجازات التي استخدمها بكري في عمله عبر الكاميرا حفرت عميقا في المعنى الذي طرحه، وميزته بجمال وبهجة وسط مأساوية الحدث الذي أغرقته الدموع والدماء، فمنذ مشهده الأول يقول بكري كمخرج أنا هنا.

في البداية، يظهر على الشاشة شاب ذو ملامح عربية يكسوها الفزع والحزن، وبعد لحظات من استخدامه لغة الإشارة نعلم أنه أخرس، وهو يصف عملية إطلاق رصاص على شاب أعزل.

الفلسطيني الأخرس هو الراوي الحقيقي للعمل رغم وجود عدد كبير من الضيوف، بينهم أكثر من ضيف رئيسي يمكن اعتباره الراوي الذي يصلح تماما لتقديم القصة وتقديم الرؤية وتلخيصها عبر كلمات مكثفة ولغة مفعمة بالوعي والخبرة الإنسانية العميقة والإرادة الحديدية "كلما أنجبنا طفلا قتلوه، كلما زرعنا حديقة خلعوا زرعها، وكلما بنينا بيتا هدموه… أين العالم؟".

ظهر الشاب الأخرس كمفصل رئيسي في بداية العمل وفي منتصفه وفي نهايته، ليشير إلى أن كتم الصوت الفلسطيني ليس إلا تصرف قصير الأمد، فسوف يتجسد في صورة، وإن أخفيت الصورة سيجد طريقه إلى العالم بطرق أخرى.

لم يقتصر الفيلم على إرادة العيش والأمل في مستقبل أكثر صمودا وإشراقا عبر فتاة على أبواب الصبا، لكنه قدم جيلا أوهنه الزمن وهزمته ظلمات الظلم، في صورة عجوز تعرض للقهر والإذلال وإطلاق الرصاص على يده وقدمه دون أي مبرر لأي صاحب عقل، فلا موقف خطيرا ولا خطورة لرجل كسا الشيب شعره وانحنى ظهره، وسبقته دموعه، ليظهر الصوت المتكرر في الفيلم لرجل أربعيني أنضجته التجربة يحكي قصة الهجوم ويخلد الضحايا بصوته، ويؤكد أن كل أمل في السلام أطلق عليه القوات الإسرائيلية الرصاص، وأن احتمالات السلام تضعف مع كل قطرة دم جديدة.

بكري المخرج الناضج الذي قدم صورة إنسانية بليغة، لم يتجاهل تلك التفاصيل الصغيرة التي أكدت لعالم لا يرى إلا من خلال عدسة منحازة، إنسانية الفلسطيني الذي ضحك وبكى وعبر عن حبه للحياة وتمسكه بالأرض والأمل، وصور أما قتلت أقدامها، فولدت مرشحا جديدا للبطولة والشهادة.

لم يكتف بكري في "جنين.. جنين" بتقديم الإنسان الفلسطيني الصامد وتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومجزرة جنين 2002، ولكنه صعد بشعب الجبارين إلى مرتبة الأسطورة التي توقف العالم عن تأملها حين تعطل ضميره.

جنين.. خلود الأمل

"جنين.. جنين" فيلم وثائقي ونبوءة حقيقية بممارسة السلوك نفسه من قبل المحتل، وفي المقابل خلود الأمل وتحول المقاومة إلى جينات تتوارثها أجيال الفلسطينيين باتساع أرض الصمود، وبعد 20 عاما تتكرر ملحمة جديدة، لم يتعلم خلالها الاحتلال الدرس، لكن المقاومة تعلمت كيف تصبح أكثر تأثيرا.

فيلم محمد بكري الذي بلغ مرحلة الشباب، حيث أنجز منذ أكثر من 20 عاما لم ينل حظه من المشاهدة بالشكل الذي يليق بعمل فني راق، وبوثيقة تكاد تشهد على العالم كله وليس على الحالة الفلسطينية التي يتعرض خلالها شعب للحبس في مساحات لا تذكر من أراضيه، ويقتل وتدمر بيوته.

"جنين.. جنين" ليس الوثيقة البصرية الوحيدة التي شهدت على المجازر التي يمارسها الاحتلال، لكنها واحدة من تلك الوثائق التي لا تحتاج إلى مترجم، إذ تعبر الوجوه والكوادر المنتقاة بدقة عن رسالة الفيلم ورؤية صانعه برقي ودقة.

تبقى النبوءة الأهم للفيلم وتتلخص في أن طفلة "جنين.. جنين" التي وعدت بالمقاومة أمام الكاميرا هي الآن امرأة ثلاثينية تقاوم، والطفل الذي ولد بينما تنزف قدما أمه نتيجة رصاصتين من بندقية محتل، يقاوم الآن، أما أبناء الذين غطتهم أنقاض بيوت جنين 2002 فهم يواجهون النار بالروح نفسها في جنين 2023.

المصدر : الجزيرة