السينما لا تعرف التطبيع.. مخرج فيلم "200 متر" يروي قصة جديدة عن الجدار القديم
أصوات انفجارات اهتزت لها العاصمة الأردنية عمان في مساء أربعاء حزين بعد انفجار في أحد فنادقها. تابع الأخبار آنذاك الملايين عبر قنوات التلفزة، يترقبون نتيجة ما حدث. في تلك الأثناء في منزل صغير في طولكرم كان يجلس فيه فتى لم يبلغ الـ17 من عمره، يتابع في صمت ما يحدث في البلد القريب، ومن بين الضحايا حينها استوقفه اسم واحد وظل أثره ممتدا في القادم من حياته. المخرج العالمي مصطفى العقاد، صاحب رائعتي "عمر المختار" و "الرسالة"، ضحية الانفجار وصاحب الأثر الذي لا يزول في حياة أمين النايفة المخرج الفلسطيني، وآخر عنقود المواهب المقبل من الأرض المحتلة، ليحصد الجوائز بفيلمه الروائي الأول "200 متر".
امتزج الفخر بالدموع حين وقف النايفة على المسرح ليتسلم جائزة مهرجان الجونة، فقال "أهدي هذه الجوائز لروح ستي (جدتي) اللي (التي) انحرمت (حرمت) منها بسبب الجدار".
رغم المعرفة المسبقة بخبر الفوز والإعداد المسبق للكلمة التي ستقال عند تسلّم جوائز مهرجان الجونة، فإن كل ذلك لم يمنع الشاب الثلاثيني من البكاء. جائزة الجمهور، وجائزة سينما من أجل الإنسانية، وجائزة أحسن ممثل، ثلاث جوائز حصدتها التجربة الطويلة الأولى لمعظم صناع الفيلم، إذ لم تكن جوائز الجونة هي الأولى لـ200 متر، فقد سبقتها جائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا، ولم تفارق الدموع عيون النايفة، فاستحق ما قاله له والده في اتصال هاتفي عقب ختام الجونة "أنا فخور بك لكن (زعلان) منك.. 100 مرة قلت لك لا تبك".
دموع النايفة على منصة الجونة ومن قبلها فينيسيا ليست ضعفا ولا حتى فرحا، لكنها دموع الحنين التي وثّقها مرتين، الأولى في فيلمه القصير "العبور" الذي يحكي قصته الشخصية، ومعاناته في الوصول إلى جدته المريضة التي تسكن في الجانب الآخر من الجدار، والتوثيق الثاني كان الأعمق لمعاناة شعب كامل يفصله عن بعضه بعضا الجدار الممتد على مسافة 850 كيلو مترا تفصل بين الضفة الغربية ورام الله، من خلال قصة مصطفى العالق في الجانب الآخر ويحجبه عن أسرته 200 متر، وجدار يستلزم تصريحا خاصا لعبوره في كل مرة.
يرفض مصطفى الحصول على الهوية الإسرائيلية بصفته من عرب 48، كما رفضها النايفة المولود في مشفى إسرائيلي كما تثبت شهادة ميلاده التي كانت تكفي لحصوله على الهوية ومعها تعويض عما فاته من تأمين صحي واجتماعي، وحياة ميسرة وانتقال بلا متاعب.
شغف وليد المقاومة
يقول المخرج أمين النايفة -في حواره مع الجزيرة نت- إنه "على مدار 7 أعوام، كان فيلم 200 متر هو شغلي الشاغل. أعمل عليه ابتداء من عام 2013، مع المنتجة مي عودة"، إذ إنه حرم من مرافقة جدته في أيامها الأخيرة بسبب الجدار، وكل ما استطاع الحصول عليه هو تصريح بـ8 ساعات قضاها معها حتى ماتت بين يديه.
لم تكن السينما هي شغف النايفة منذ صغره، لكن الحصار جعلها الفن الوحيد المتاح، كما جعلها شقيقه الأكبر متعة خالصة حين فتح عينيه على عوالم جدية في تاريخ السينما، فهو أبدا لم تكن تستهويه أفلام الحركة والإثارة والمغامرة التي كانت تعرض في دور العرض في التسعينيات وأوائل الألفية الثانية.
وقد عرف أمين روائع الفن السابع، وانبهر بأهم 100 فيلم في تاريخ السينما. وحين كان العالم منشغلا بما يجري في العراق بعد غزوه، متغافلا عن الأرض المحتلة ومقاومتها، عرف المخرج الفلسطيني أن السينما هي أداة تعريف العالم بالقضية، وأن تأثير الشاشة الفضية أقوى من مئات الكلمات.
السينما التي أضحت الرغبة الأولى لطالب الثانوية لم تكن كذلك بالنسبة لعائلته، وشقيقته التي كانت من الـ10الأوائل في الضفة في الثانوية العامة، وحازت على منحة لدراسة الطب، وهو التالي في السلسلة الدراسية وعليه أن يكمل ما بدأته شقيقته، خاصة أنه متفوق دراسيا، وتحلم له الأسرة أن يصبح طبيبا أو مهندسا.
لكن رغبة الفتى ليست في الطب ولا الهندسة، فهو يهوى السينما والفن. يقول نايفة للجزيرة نت "حين أخبرت أهلي برغبتي في دراسة السينما اعترض الجميع قائلين من أين أتتك تلك الفكرة، وماذا ستصنع لك السينما والإخراج وهذا الهراء؟". لم يكن يتوقع أحد أن يصل الشاب الفلسطيني إلى منصات المهرجانات العالمية، وأن تكون معاناة فلسطين المحتلة هي قضيته الأولى وحلمه الوحيد.
قلة التمويل والتطبيع
لكل تجربة أولى مصاعب تهون بعدها كل التجارب، لكن نايفة وعودة لم يتوقعا أن تستمر مصاعب الفيلم الإنتاجية مدة 7 سنوات كاملة. مِنَح محدودة وتمويل ضعيف، وتقصير حتى من أصحاب القضية، وتصوير مرتجف يخشى قبضة المحتل، ومع اقتراب وضع كلمة النهاية وضعت جائحة كورونا عائقا جديدا أمام تمويل الفيلم.
أوضح النايفة آثار الإغلاق العالمي بسبب "كوفيد-19" على فيلمه الأول 200 متر، فقال "أنهينا تصوير الفيلم عام 2019، لكن مراحل المونتاج كانت تتم في مصر، وسافرت من مصر قبل الإغلاق بأيام قليلة، وبقيت مراحل من المكساج والموسيقى والألوان كنا نجريها عبر تطبيق "زوم" (Zoom)، حتى إنني لم أرَ نسخة الفيلم النهائية إلا أثناء عرضه في فينيسيا، وهناك كنت أتابع الفيلم وأدوّن ملاحظاتي على النسخة المعروضة لإصلاحها في نسخة جديدة، وهو ما تم في النسخة التي عرضت في الجونة".
تزامُن توقيت عرض الفيلم مع موجات التطبيع التي اجتاحت البلدان العربية كان بمثابة ضربة ارتدت في صدر نايفة، فقال الشاب الفلسطيني -للجزيرة نت- إنه يتقبل أن للسياسة وجوها كثيرة، وإن بلدانا مثل مصر والأردن بتاريخها من الحروب مع العدو كان لابد من أن تتوصل إلى صيغة ما من التطبيع. وأضاف "لكن ما الذي يضير الإمارات والبحرين والسودان؟ فيتاح لأبناء الكيان الصهيوني ما لا يسمح لنا به. حكى 200 متر قصة الجدار الذي يفصل بين الفلسطينيين بعضهم بعضا داخل وطنهم، لكنه لم يكن يعلم أنه في وقت ما سينجح العدو في بناء جدار آخر فاصل بين الأرض المحتلة والعرب".
لن أعيش في عباءة المهرجانات
التخطيط للأفلام التالية في مسيرة النايفة يعتمد بوجه أساسي على القصة الإنسانية. يقول أمين -للجزيرة نت- إن نجاحه في فيلم 200 متر يعود إلى تماهيه في الحدث ومعايشته تفاصيله كافة، وهو ما يصعب تحققه في كل القادم من الأفلام.
لكن البحث عن قصة إنسانية يستطيع أن يغوص في كل تفاصيلها، لينقلها بالحرفية ذاتها إلى المشاهد هو ما يبحث عنه، مؤكدا أنه بصدد الاختيار بين قصتين كلاهما تحمل أبعادا إنسانية تتعلق بالهوية وقيمة الحياة. ويضيف النايفة أنه يأمل أن يشارك يحيى الفخراني وجمال سليمان بطولة عمله القادم.
لا يود النايفة أن يبقى في عباءة أفلام المهرجانات مثل غيره من السينمائيين الفلسطينيين، فهو لا يغفل أهمية شباك التذاكر، وذائقة الجمهور العربي. لذا يود لو يجمع بين الحسنيين، فيقول للجزيرة نت "أنا لا أبحث عن الجمهور النخبة، وأظن أن فيلم 200 متر يحقق المعادلة الصعبة حين عرضه في فلسطين، فما يعرض في دور العرض في الضفة هي الأفلام المصرية فقط، لأنها قادرة على جذب المشاهد، وأعتقد أن 200 متر سيكون له المقدرة نفسها، ويحقق على الأقل طفرة في نوع الجمهور الذي يتابع أفلام المهرجانات".