"الخونة" الذين أنقذوا العالم.. حين كُشفت أسرار "الرجل البدين"؟

في عام 1943 التحق الشاب النابغة ثيودور هول (1925-1999) بمشروع مانهاتن النووي الأميركي (البريطاني الكندي) تحت إشراف عالم الفيزياء النووية من أصل ألماني روبرت أوبنهايمر (1904-1969)، وتزامل مع عالم الفيزياء النظرية البريطاني من أصول ألمانية كلاوس فوكس (1911-1988) ونظيره الأميركي ديفيد غرين غلاس (1922-2014).

كان هول (18 عاما) الأصغر من بين صفوة العلماء الذين دخلوا مختبر لوس ألاموس شديد السرية في صحراء نيو مكسيكو، وشهد تجربة ترينيتي "trinity" (الثالوث)، أول تفجير نووي في التاريخ يوم 16 يوليو/تموز 1945، ثم إلقاء بلاده قنبلتي "الولد الصغير" و"الرجل البدين" الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين يومي 6 و9 أغسطس/آب 1945.


من اليمين ديفيد غرين غلاس وكلاوس فوكس وثيودور هول (الصحافة الأجنبية)
قنبلة "الرجل البدين" التي ألقيت على مدينة ناغازاكي يوم 9 أغسطس/آب 1945 (الفرنسية)

سر "الرجل البدين"

سيرتبط الفتى هول لاحقا بالمشروع النووي السوفياتي المتعثر حين قام بتسريب بعض أسرار "الرجل البدين" لجهاز المخابرات الوليد بقيادة لافيرنتي بيريا رئيس جهاز الأمن السوفياتي وجهاز الشرطة السرية في عهد جوزيف ستالين (1878-1953).

ساعدت تلك الأسرار السوفيات على تجاوز أوجه القصور في برنامجهم النووي، وتنفيذ "عملية البرق" بتجربة أول سلاح نووي في 29 أغسطس/آب 1949 في كازاخستان.

كان العلماء السوفيات قد حققوا تقدما في أبحاث الفيزياء النووية في ثلاثينيات القرن الـ20، قبل أن يأمر جوزيف ستالين بتوجيه كل الجهود إلى التعدين والصناعات العسكرية التقليدية لمواجهة الغزو النازي.

وبعد تسرب أسرار مشروع مانهاتن ثم قصف اليابان بالنووي أمر بإعادة تجنيد كل الطاقات والعلماء لملاحقة الخطوات النووية الأميركية.

أحس الاتحاد السوفياتي بأن استعمال واشنطن السلاح النووي بعد استسلام ألمانيا والحرب تتجه للحسم يعد رسالة قوة موجهة بالأساس له، ولا سيما أنه كان واضحا أن نهاية الحرب العالمية الثانية ستكون بداية لحرب أخرى مفتوحة بأدوات جديدة مع الولايات المتحدة.

ووفق وثائق المخابرات المركزية الأميركية، بدأ ثيودور هول في ديسمبر/كانون الأول 1944 بتأثير من رفيقه في السكن -الذي كان ماركسيا- بإرسال ما يعتبر أول تسريبات لأسرار نووية من مختبر لوس ألاموس، وتمثلت في معلومات عن قنبلة "الرجل البدين" البلوتونية (البلوتونيوم).

مجموعة من العلماء والفنيين خلال التحضير لتجربة "ترينيتي" (وثائق أرشيف مختبر لوس ألاموس)

أدين كلاوس فوكس عام 1950 بتسريب أسرار نووية حساسة للسوفيات، وحكم عليه بالسجن 14 عاما قضى منها 9 أعوام.

كان فوكس جاسوسا سوفياتيا مؤمنا بالشيوعية كحل اجتماعي وسياسي لمشاكل العالم، بالإضافة إلى أنه كان رافضا تفرد قوة واحدة بسلاح جبار يعرف قوته التدميرية أكثر من غيره.

في نفس السنة أدين غرين غلاس (الشيوعي أيضا) بالتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي ونقل أسرار نووية، وحكم عليه بالسجن 15 سنة قضى منها 9 سنوات ونصف السنة.

وعلى عكس فوكس وغرين غلاس لم تتم إدانة هول أو الحكم عليه لعدم توفر الأدلة، ولم يستطع الادعاء الأميركي -خلال الحقبة المكارثية- إبراز مراسلات العالم الشاب مع جهاز المخابرات السوفياتية، لأن ذلك كان سيفشي أسرارا أكبر تتمثل في اختراق وكالة المخابرات المركزية الشفرة السوفياتية.

السيناتور جوزيف مكارثي يحمل رسالة موجهة من مكتب التحقيقات الفدرالي (غيتي إيميجز)

جنون الحقبة المكارثية

لم يسلم روبرت أوبنهايمر نفسه من الشكوك حول كونه عميلا للسوفيات، ففي الحقبة المكارثية (نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ الجمهوري جوزيف مكارثي) -والتي تعرف أيضا بـ"الذعر الأحمر الثاني" (1950-1955)- كانت الاتهامات بالشيوعية والتجسس للاتحاد السوفياتي والخيانة تلقى جزافا ودون أدلة، ودعم هذا التوجه المكارثي مدير مكتب التحقيقات الفدرالي العتيد جون إدغار هوفر الذي بقي في منصبه لمدة (37 عاما) منذ عام 1935 إلى 1972.

من أجل القضاء على "الوباء الأحمر" تمت ملاحقة آلاف الأميركيين ومراقبتهم، بينهم علماء وأكاديميون وفنانون ومثقفون وسياسيون من نخبة المجتمع (ألبرت أينشتاين، شارلي شابلن، آرثر ميلر وزوجته مارلين مونرو، ومارتن لوثر كينغ..)، واعتقل وفصل الآلاف من وظائفهم بتهمة الشيوعية.

برّأت لجنة التحقيق أوبنهايمر من تهمة الخيانة، لكنها منعته من الوصول إلى مزيد من الأسرار العسكرية، وأُلغي تعاقده كمستشار مع وكالة الطاقة الذرية.

رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي إدغار هوفر قضى 37 عاما في المنصب (غيتي إيميجز)
روبرت أوبنهايمر مدير مشروع مانهاتن كشف أمر القنبلة الهيدروجينية الأميركية وقاد حملة ضدها (الفرنسية)

حيرة العلماء

في أوج الحقبتين المكارثية في الولايات المتحدة والستالينية في الاتحاد السوفياتي (بداية خمسينيات القرن الـ20) كانت الحبال الأيديولوجية مشدودة على آخرها بين القطبين العملاقين وسباق التسلح النووي على أشده.

ظهرت في الولايات المتحدة "حمى معاداة الشيوعية" تحت شعار "Better dead than red" أي "الموت أفضل من أن نصبح شيوعيين"، مقابل بروز تيار آخر في الولايات المتحدة والغرب مناهض للسلاح النووي ولسباق التسلح الخطير، وابتدع شعار "Better red than dead" أي "أن نكون حمرا (شيوعيين) أفضل من أن نموت"، وتزعمه الكاتب والفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872-1970) والكاتب والمسرحي الأميركي آرثر ميلر (1915-2005).

قاد روبرت أوبنهايمر نفسه حملة ضد القنبلة الهيدروجينية بعد أن كشف أمر تصنيعها، متزعما فريقا من العلماء الذين كانوا يخشون حربا نووية مهلكة.

ووفق ما ذكره آرثر ميلر في مذكراته "انحناءات الزمن" عن أوبنهايمر قبيل وفاته بسنوات، فإنه كان قد أحس بتعذيب الضمير بعيد إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، وعاش فترة من الحزن والكآبة وانقطع عن العمل لفترة، ولم يشأ أن يذكره التاريخ كصانع سلاح مدمر أزهق أرواح مئات الآلاف في حرب كانت تشرف على النهاية.

في رده لاحقا على الاتهامات بالخيانة قال ثيودور هول في بيان نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 1997 وقبل وفاته بعامين متأثرا بالسرطان "في عام 1944 كان القلق يساورني بشأن خطورة احتكار الولايات المتحدة السلاح النووي".

ووفق هول، لم يكن الاتحاد السوفياتي آنذاك (خلال الحرب العالمية الثانية) العدو، بل كان حليفا للولايات المتحدة، وقد تكبد خسائر بشرية فادحة (أكثر من 17 مليون قتيل)، ومثّل جدار صد حال دون سقوط حلفاء غربيين أمام الزحف النازي.

ويضيف هول في البيان "لقد زعموا أنني غيرت مجرى التاريخ، ربما لو لم يتغير هذا المجرى لشهد العالم حربا نووية في الـ50 عاما الماضية، ولربما أُلقيت القنبلة على الصين عام 1949 أو في أوائل الخمسينيات، حسنا إذا كنت أنا قد منعت حدوث ذلك، فأنا أقبل التهمة".

كانت نظرية ثيودور هول -كما فوكس وتيار عرف آنذاك بثورة العلماء يعارض السلاح النووي- هي أن تمكين الاتحاد السوفياتي من حيازة أسلحة نووية سيحدث توازنا في القوى وردعا متبادلا يحول دون الخيار النووي، فيما سيكون احتكار الولايات المتحدة هيمنة على العالم قد لا تحمد عقباها.

لا يمكن الجزم على وجه اليقين بأن العلماء الذين سربوا أسرار القنبلة النووية تحت ضغط الوازع الأخلاقي أو غيره قد حالوا فعلا دون نشوب حرب نووية، لكن التوازن النووي وقوة التدمير الهائلة والردع المتبادل في خضم الحرب الباردة كل ذلك كان فعالا في عدم استعمال السلاح الرهيب، لكن سباق التسلح النووي بين القوتين الأعظم اشتد، والتحقت دول أخرى بهذا السباق تباعا في ستينيات القرن الماضي.

القنابل الهيدروجينية تضاعفت قدرتها التدميرية مئات المرات مقارنة بالقنابل النووية (الجزيرة)

سباق الرعب

اشتهر أوبنهايمر بمقولته "الآن أصبحتُ الموت، مدمر العوالم" (Now, I am become Death, the destroyer of worlds)، كان تفجير "ترينيتي" وبعده "عملية البرق" إيذانا بتشكل عالم جديد يقترب بشكل سريع من التدمير الذاتي بكل تلك الحمولة من التنافر الأيديولوجي والانقسام الدولي والقوة العسكرية الهائلة المعززة بمخالب نووية فتاكة.

منذ بداية الخمسينيات استعر سباق التسلح وانصرفت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كخصمين لدودين وقطبين عالميين مختلفين أيديولوجيا إلى تطوير القدرات النووية.

فجرت الولايات المتحدة أولى قنابلها الهيدروجينية عام 1952، وبعد أقل من عام قام الاتحاد السوفياتي عام 1953 بتفجير أولى قنابله الهيدروجينية (الكعكة المحشوة).

كان العالم الشاب أندري ساخاروف (1921-1989) -الذي انشق لاحقا وأصبح داعية سلام- هو الذي صمم تلك القنبلة التي تعادل قوة انفجارها -في ذلك الوقت- 30 مرة قوة انفجار القنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة الأميركية على هيروشيما، كما كانت أصغر وأكثر سهولة في النقل عن نظيرتها الأميركية.

لاحقا، تطورت القوة التدميرية للأسلحة النووية وأعدادها بشكل هائل، وتقدر القوة التدميرية لقنبلة "القيصر" "آر دي إس-220" (RDS-220) الهيدروجينية السوفياتية مثلا بـ57 ميغاطن، أي 57 مليون طن من مادة "تي إن تي" (TNT) شديدة الانفجار، وهي أقوى بنحو 2500 مرة من القوة التدميرية لقنبلة ناغازاكي.

تطورت أيضا وسائل حمل الرؤوس النووية من الطائرات والقاذفات الإستراتيجية والصواريخ طويلة المدى والغواصات بهدف تنفيذ الضربة الأولى أو الرد على ضربة نووية، لكن الخيار النووي -رغم الصراع الأيديولوجي وتتالي الأزمات بين القطبين وظروف الحرب الباردة- بقي ضمن الخطوط الحمراء، ربما كما خطط علماء لوس ألاموس.

عالم متخم بالنووي

وفق وثائق معهد ستوكهولم لأبحاث السلام "إس آي بي آر آي" (SIPRI) كان الاتحاد السوفياتي يمتلك أكثر من 35 ألف سلاح نووي قبيل انهياره عام 1991، فيما تشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة كانت تمتلك أكثر من 31 ألف سلاح نووي، لكن تلك الترسانة تقلصت كثيرا حاليا بفعل معاهدات الحد من انتشار السلاح النووي والتجارب النووية أو التفكيك الطوعي للمخزونات القديمة.

تمتلك روسيا حاليا نحو 6257 رأسا نوويا، مقابل 5428 للولايات المتحدة، وتضم ترسانة فرنسا 290 رأسا نوويا، وتمتلك الصين 350 رأسا نوويا، ولدى بريطانيا 225 رأسا نوويا، فيما يقدر عدد الرؤوس النووية لباكستان بـ165 رأسا نوويا، وتضم الترسانة النووية للهند 160 رأسا نوويا.

ورغم أن إسرائيل لم تعلن رسميا امتلاكها السلاح النووي وتفصح عن حجم ترسانتها فإن التقديرات تشير إلى امتلاكها 90 رأسا نوويا، فيما يعتقد أن لدى كوريا الشمالية نحو 20 رأسا نوويا.

وفي تقرير نشره في 13 يونيو/حزيران 2022 أشار معهد ستوكهولم لأبحاث السلام إلى حصول زيادة فعلية في عدد الرؤوس النووية التي نشرت، وأن جميع الدول النووية التسع تواصل إما تحديث ترسانتها النووية أو زيادتها، كما أن الإنفاق العسكري وصل لأول مرة إلى تريليوني دولار، مما يشير إلى عودة السباق النووي.

أدت مساعي المجتمع الدولي للتخلص من السلاح النووي أو تقليصه إلى إبرام معاهدات واتفاقيات غير ملزمة لم توقع أو تصدق عليها معظم القوى النووية الفعلية، من بينها معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (1952)، ومعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (1968) التي لم توافق عليها إسرائيل وباكستان والهند وكوريا الشمالية (انسحبت منها عام 2003)، أو معاهدة حظر الأسلحة النووية (2017) التي لم تصوت عليها جميع الدول النووية.

ترسم بعض التحليلات توقعات متشائمة لإمكانية اندلاع حرب نووية محدودة أو شاملة تحمل بدورها دمارا جزئيا أو شاملا للعالم، وتستند إلى تصاعد التوتر بين روسيا والناتو جراء الحرب في أوكرانيا والتصريحات الروسية حول وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب، والاستقطاب الدولي المتزايد، وعودة سباق التسلح، وزيادة الإنفاق على الأسلحة، خاصة فرط الصوتية.

لكن العالم لم يصل بعد إلى ما تشبه أزمة الصواريخ الكوبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في أكتوبر/تشرين الأول 1962 حين حبس العالم أنفاسه انتظارا للضربة النووية الأولى، وما زالت نظرية الردع المتبادل التي فطن لها علماء لوس ألاموس وطبقوها بـ"الخيانة" أو صحوة الضمير قائمة وفعالة.

المصدر : الجزيرة