الأعين الخمس التي لا ترى "الذئاب المنفردة"

الأعين الخمس
تلكؤ مريب
"الإمام" غوغل

 
 

بعد حادثة أورلاندو العنيفة التي راح ضحيتها 49 شخصا في ملهى ليلي عادت وسائل الإعلام إلى طرح ذات السؤال الذي يتكرر كلما وقعت حادثة إرهابية في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية, كيف أفلت منفذ العملية من المراقبة؟

إعلان

الواقع أن اختلاف ظرفية هذه الحادثة عن سابقاتها تجعل التساؤل حول السلوك المريب لأجهزة الأمن الأميركية مشروعا بل وضروريا لمحاسبتها عن التقصير على أقل تقدير، أو التحقيق معها فيما يمكنه أن يكون أكبر من ذلك.

وقد أقر مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) برصده للجاني عمر متين واستجوابه له خلال سنتين (2014 – 2013) إثر تصريحات له يشيد فيها بالإرهاب وزياراته المتكررة لمواقع متطرفة. وبالرغم من أنه يعمل في "جي فور أس" وهي أكبر شركة أمنية في العالم ويمتلك سلاحا مرخصا, لكن كل ذلك لم يكن "كافيا قانونيا" بحسب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي لإلقاء القبض عليه أو الاستمرار في مراقبته فأغلقوا الملف.

إعلان

المثير في مثل هذه المزاعم هو تناقضها نظريا مع الإمكانيات القانونية واللوجستية الواسعة التي أتاحها قانون مكافحة الإرهاب للأجهزة الأمنية, كما أنها مخالفة لواقع ممارسات "إف بي آي" الذي تورط مرارا في انتهاكات حقوق مواطنين عاديين لم تحم حولهم شبهات الإرهاب, فكيف يتورع فجأة عن متابعة عمر متين الذي عرف باضطرابه النفسي و"ميوله الإرهابية" وامتلاكه أسلحة تتيح له القيام بذلك.

ما يعزز الشكوك حول مصداقية مزاعم مسؤول "إ ف بي آي" جيمس كومي هو الرواية الرسمية للأمن حول عملية إرهابية أخرى كادت أن تقع في نفس يوم حادثة أورلاندو؛حيث وصفت أجهزة الأمن تعاملها مع مشتبه به اسمه جيمس ويسلي هويل بشكل مختلف تماما عما تحدث عنه كومي, حيث اعتقل بشكل سريع قرب شاطئ سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا لمجرد أن السكان اشتبهوا في تصرفاته فأبلغوا الشرطة التي أرسلت دورية ألقت عليه القبض فورا وفتشت سيارته لتجد بداخلها مواد كيميائية وقناعا للغاز وبنادق هجومية, واعترف خلال التحقيقات أنه كان ينوي استخدامها ضد مسيرة للشواذ.

الأعين الخمس
تشكل في أربعينيات القرن العشرين أقوى اتحاد سري في العالم يجمع استخبارات كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وعرف بتحالف "الأعين الخمس" عبر اتفاقية "يوكي يو إس إي" للتعاون في مجال التجسس.

نشطت "الأعين الخمس" بشكل كبير خلال الحرب الباردة وطورت وسائل خارقة للتنصت على المكالمات والهاتفية ورصد الرسائل المشفرة ومراقبة الأقمار الصناعية عبر نظام "إيكيلون" التجسسي الذي كان يعمل سرا وبشكل غير قانوني على جمع البيانات والمعلومات عن الدول والأفراد والمؤسسات الخاصة إلى أن اكتشف أمره في التسعينيات.

زادت إمكانيات "إيكيلون" في اعتراض الاتصالات بعد أن أضيفت إلى مهامه سنة 2001 مراقبة الإنترنت عبر برامج تجسس رقمية وأخرى كهرومغناطيسية عالية الدقة مثل برنامج الزوبعة أو "تمبست" الذي يخرق جدران المباني لمراقبة الحواسيب والتقاط صور لشاشاتها وتسجيل وتحليل نقرات مفاتيحها, لتصل بذلك الشبكة إلى رصد ما يفوق ثلاثة مليار اتصال يوميا, يتم تفريغها وفرزها وترجمتها وتدقيقها لغويا عبر مصاف دقيقة للغاية مثل نظام "فلوينت" للترجمة الفورية ونظام "أويزيس" لتحويل الأصوات إلى نصوص مكتوبة.

تلكؤ مريب
رغم أن هذه الإمكانيات التجسسية الضخمة تجعل مهمة تعقب ما يدور في الأنترنت أمرا سهلا ويمكنها منع انتشار المحتويات الإرهابية بشكل فعال، فإن الأجهزة الأمنية تلجأ بعد كل عملية إرهابية للادعاء بأنها لا تستطيع إيقاف المنصات الرقمية التي تعتمدها التنظيمات الإرهابية لاصطياد مزيد من الشباب، خاصة وأن ما تطلق عليه اسم "التطرف الذاتي" يمر عبر زيارة مواقع ومنتديات إرهابية وهو ما صرح به أوباما نفسه عقب حادثة أورلاندو في اجتماع مع كبار المسؤولين الأمنيين وعلى رأسهم مدير "إف بي آي" جيمس كومي ووزير الأمن الداخلي جي جونسون؛ إذ قال "يبدو أن مطلق النار تأثر بمصادر معلومات متطرفة مختلفة على الإنترنت" وهو ما أكده مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي عبر عن اقتناعه بأن عمر متين "اعتنق التطرف" عبر الإنترنت.

إعلان

ولإسكات الأصوات المتشككة في تلكؤها حملت أجهزة الأمن الأميركية والأوروبية المسؤولية لمواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر ويوتيوب في إغلاق الصفحات التي تدعوا لإرهاب أو تشيد به. لكن هذه الأخيرة ردت ببيانات توضيحية تظهر اتباعها لسياسات الحذف لمضامين تدعو للكراهية والإرهاب فقط حينما يتم التبليغ عن ذلك من طرف الحكومات أو المتصفحين مبررة ذلك بعدم امتلاكها لفرق كبيرة لمراقبة سيل المعلومات الضخم. وبحسب إحصائيات الفيس بوك لسنة 2015 مثلا يتبين أن الموقع يستضيف كل يوم 350 مليون صورة ليبلغ حجم الصور 240 مليار صورة ثم ما يتم مشاركته يوميا من محتوى بحجم 4.75 مليار بالإضافة إلى 10 مليارات رسالة في اليوم.

تبدو هذه الأرقام الهائلة كافية للإقناع باستحالة مراقبة كل ما ينشر أو حظر ما تطالب الحكومات بحظره؛ لكن في الحقيقة هي مجرد غطاء يتستر به المسؤولون عن الأمن ويساعدهم في التهرب من المساءلة من جهة، يترك المجال -من جهة أخرى- مفتوحا لشركات الإنترنت العملاقة لاستعادة ثقة مرتاديها في "الحرية الرقمية" التي هزتها فضائح مثل "تسريبات سنودن".

إعلان

"الإمام" غوغل
إمعانا في التضليل تفضل تلك اللوبيات الرقمية والقوى الدولية الظهور أمام الرأي العام بمظهر القوى المتنافرة ذات المصالح المتعارضة, وهي وسيلة فعالة لإبعاد شبهة تقاطع المصالح أو التواطؤ التي عادة ما يكون ضحيتها ملايين البشر عبر العالم وتكون على حساب مصالح الدول الأضعف.

ومن أمثلة تلك التجاذبات الوهمية ما نقله موقع إذاعة أوروب1 الفرنسية في 20 في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أي بعد أسبوع من أحداث باريس الإرهابية, حيث أطلق النائب من حزب الجمهوريين الفرنسي جزافيي بيرتران لقب "الإمام غوغل"، ملمحا إلى دور شركة غوغل في قضية الإرهاب، وهو ما ردت عليه الشركة في حوار مع نفس الإذاعة بالقول إنه "إذا كان النائب حر في ما يقول، فهو ربما غير مطلع على كل الإجراءات التي نفذتها غوغل" وعادت بإسهاب إلى حجة الأرقام التي تتدثر بها بقية الشركات مثل الفيس بوك وتويتر, موضحة أنها تتلقى نحو 100 ألف تبليغا يوميا حول تسجيلات على اليوتيوب يدرسها فريق تابع لغوغل موزع على دول عدة.

إعلان

عبر هذا السجال المفتعل تتجنب كل تلك القوى الحديث عن معالجة هذه المعضلة عن طريق استخدام الخوارزميات المعروفة بنجاحها في فرض رقابة تلقائية دون انتظار الشكاوى وهو ما يطبقه الفيس بوك فعليا فيما يخص المحتويات الجنسية التي تمس بالأطفال، ولكنها ترفض استخدامه في قضايا الإرهاب.

وهو ما يفتح المجال للاشتباه في احتمال تورطها في ترك المجال لأجهزة الأمن للقيام بعمليات غير قانونية متل تلك التي كشف عنها تقرير أصدرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" عام 2014 إثر تحقيق أجرته بالاشتراك مع معهد حقوق الإنسان في كلية الحقوق في جامعة كولومبيا، وشمل فقط 27 قضية إرهاب مفترضة تبين أنها كانت بتخطيط وتمويل من مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) الذي استدرج بعض المرضى النفسيين وحرضهم على القيام بسلسلة من العمليات الإرهابية المزيفة بعد اعتداءات 11سبتمبر/أيلول 2001، انتهت بهم إلى السجون.

وهو ما يؤكد المعلومات الخطيرة التي كانت قد أوردتها صحيفة النيويورك تايمز في مقال نشرته في 28 أبريل/نيسان 2012 بعنوان: "مؤامرات إرهابية، حيكت من قبل إف بي آي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان