هكذا تشكلت إمبراطورية المسجَّلين خطرا والبلطجية في مصر

تحوَّلت "أعمال البلطجة" في مصر إلى وظيفة يمارسها كثيرون ويعتبرونها "مصدر رزق" وسبيلا إلى الترقِّي الاجتماعي.

في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقعت جريمة قتل مروِّعة هزَّت الشارع المصري كله وروَّعت مدينة الإسماعيلية، إذ أقدم شاب على قتل رجل ثمَّ فصل رأسه عن جسده، قبل أن يتجوَّل في المدينة حاملا رأس الضحية في يد والساطور الذي استخدمه في قطع رأسه في اليد الأخرى، وكل ذلك أمام المارة وفي وضح النهار. بعد القبض على الجاني، تبيَّن لقوات الشرطة المصرية أن القاتل كان تحت تأثير مخدِّر "الشابو" الذي انتشر مؤخَّرا في البلاد، لكن "جريمة الإسماعيلية" الأخيرة ليست الجريمة الوحيدة التي حضر فيها ذلك المخدِّر.

ففي شهر يوليو/تموز الماضي، وقعت حادثة أخرى قتل فيها شاب والده بسلاح أبيض بعد مشادَّة كلامية بسبب إدمان الابن لمخدِّر "الشابو". (1) وفي إبريل/نيسان، تجرَّد أب من مشاعره وقتل طفله الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره صعقا بالكهرباء بحجَّة عدم الانصياع لطاعته. وفي الشهر السابق لتلك الحادثة، وقعت مذبحة بشعة في محافظة "قنا"، حيث فتح شاب مدمن نيران سلاحه على أشقائه الثلاثة بعد خلافات داخل المنزل، وفي أثناء محاولة ضبطه أطلقت قوات الشرطة رصاصها عليه فأردته قتيلا.

بيد أن هذا المخدِّر، وأشقاءه من أصناف المخدِّرات المنتشرة في المجتمع المصري، ليس سوى عامل "مُحفِّز" للجريمة التي تموج بها مصر. فبعد أقل من 5 أيام فقط على وقوع "جريمة الإسماعيلية"، قتل أحد "المُسجَّلين خطرا" زوجته ووالدتها بمحافظة "الفيوم" بسبب شكوكه في سلوكها واعتقاده بعملها في "البغاء"، وذلك بعد 11 شهرا فقط على زواجه منها. (2)

تنتشر جرائم القتل والعنف الأسري والتحرُّش والشرف في شتى ربوع مصر، إذ كشفت دراسة صادرة عن جامعة عين شمس أن جرائم القتل العائلي وحدها تُشكِّل نسبة الربع إلى الثلث من إجمالي جرائم القتل، فيما أكَّدت دراسة أخرى "للمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية" أن 92% من هذه الجرائم تُرتكب بدافع العِرض والشرف، فضلا عن العوامل الاقتصادية التي باتت من أبرز أسباب تضاعف معدلات القتل العائلي. (3) يطرح كلُّ ذلك أمامنا تساؤلات عدَّة حول زيادة معدَّل الجرائم ومرتكبيها في مصر، وارتباط تلك الجرائم بتنامي ظاهرة "البلطجة" والتباهي بالسلوكيات الإجرامية العنيفة في شتى طبقات المجتمع.

عالم الجنائيين في مصر

يقترن صعود عالم الجريمة والعنف الإجرامي في مصر بتاريخها السياسي، فلم تنتشر ظاهرة "البلطجية" بهذه الدرجة حتى بداية القرن العشرين، إذ تحوَّلت "أعمال البلطجة" إلى وظيفة يمارسها كثيرون ويعتبرونها "مصدر رزق" وسبيلا إلى الترقِّي الاجتماعي. ففي ظل تراجع الثقة في كفاءة الأجهزة الشرطية، لجأ البعض إلى توظيف البلطجية لحلِّ المشكلات الخاصة (مثل النزاعات حول الأموال والعقارات والأراضي)، سواء بدوام كامل أو عبر الحساب بنظام الساعة، التي يصل سعرها في بعض الأحيان إلى 500 جنيه (نحو 32 دولارا) أو أكثر. لكن اللحظة الفارقة لتحوُّل "البلطجة" إلى ظاهرة اجتماعية-سياسية كانت حين استعان النظام بهم لترويع المعارضين خلال الانتخابات البرلمانية، إلى جانب استعانة عدد من ضباط الشرطة ورؤساء المباحث بهم لإرشادهم إلى الجرائم في عدد من المناطق التي يُقيمون بها كي يُسهِّلوا عملية البحث. (4)

يُشكِّل "المُسجَّلون خطرا" المنبع الأساسي -وإن لم يكن الوحيد- لعالم الجريمة والعنف بالمجتمع المصري. وقد أتى لقب "المُسجَّلين خطرا" من المعاملة الجنائية التي أقرَّها القانون المصري رقم 47 لسنة 1960 بشأن الوضع تحت مراقبة الشرطة، وبعض أحوال تدابير الحراسة المنصوص عليها في المادة 208 مكرر (أ) من قانون الإجراءات الجنائية، وكذلك ما نصَّت عليه المادة 52 من قانون العقوبات المصري قبل إلغائه؛ من أنه يجوز للقاضي أن يُقرِّر اعتبار المُتَّهم "مجرما اعتاد الإجرام"، وأن يأمر بإرساله إلى محلٍّ خاص تُعيِّنه الحكومة واسمه "إصلاحية الرجال". (5)

يُصنِّف القانون الجنائي المصري المُسجَّلين خطرا إلى ثلاث فئات وفق نشاطهم الإجرامي، سواء اندرج هذا النشاط تحت بند السرقة أو النشل أو القتل أو الاحتيال أو المخدِّرات. وبحسب سجلات البحث الجنائي في وزارة الداخلية، يصل عدد المُسجَّلين خطرا في مصر إلى ما بين 120-140 ألفا، لكن مراكز بحثية مصرية، من بينها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أكَّدت أن عددهم يتجاوز المليون شخص، وأنهم يُعَدُّون وقدا للمشكلات والأزمات والمعارك في الشوارع، التي تشمل أعمال القتل العمد أو الشروع به، والسرقة بالإكراه والسطو والترويع، وتعاطي المخدِّرات والاغتصاب وحمل الأسلحة البيضاء، وفرض الإتاوات وجرائم الخطف، وغيرها.

في الوقت الراهن، أصبح من الصعب بمكان الوقوف على إحصائيات وبيانات دقيقة ومُحدَّثة عن أعداد المجرمين والمُسجَّلين خطرا، خاصة في ظل تعذُّر الاطلاع على تقرير الأمن العام، الذي لم يعُد يصدر عن وزارة الداخلية، ناهيك بالتضارب في الأرقام حول أعداد المُسجَّلين خطرا التي تصدر عن مسؤولي وزارة الداخلية وتنشرها الصحف المصرية. وفي ضوء هذا النقص الواضح في البيانات، تبقى الدراسة التي أعدَّها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2012 حول المعاملة الجنائية للمُسجَّلين خطرا في السجون المصرية هي المصدر الأكثر واقعية الذي يمكن الاعتماد عليه في هذا الصدد، وهي تكشف لنا الكثير عن السمات العامة لمجتمع الجريمة بمصر.

بُنيت الدراسة على الإحصائيات التي صدرت من مصلحة الأمن العام بوزارة الداخلية بشأن الأنشطة الإجرامية بجميع مديريات أمن الجمهورية (وعددها 30 مديرية) منذ عام 1980 وحتى آخر عام 2005، التي جاء فيها أن إجمالي عدد المُسجَّلين خطرا بلغ 146040 شخصا، منهم 92680 كانوا يزاولون النشاط الإجرامي في هذا التاريخ، وذلك بعد استبعاد الذين توقَّف نشاطهم أو رُفعت أسماؤهم من كشوف الخطرين بسبب الوفاة.

ماذا نعرف عن المُسجَّلين خطرا في مصر؟

ترسم البيانات صورة النشاط الإجرامي في المجتمع المصري حتى عام 2005، وهو العام نفسه الذي ظهر فيه جليًّا استخدام النظام المصري للبلطجية خلال الانتخابات البرلمانية. وتعتمد الدراسة على عيِّنة من إحصائية من ملفات المُسجَّلين خطرا بسجون مصر، ما يُعطينا صورة شبه دقيقة عن شبكات المُسجَّلين، التي شكَّلت الأساس الذي اعتمدت عليه وزارة الداخلية بين عامَيْ 2005-2011، قبل أن تسقط الوزارة إبَّان الثورة المصرية، ثمَّ تقع ملفات أمن الدولة في إبريل/نيسان 2011 في جعبة المخابرات الحربية، ويكشف النقاب في النهاية عن إمبراطورية البلطجية التي رعاها "صبري نخنوخ"، أحد أهم رجال نظام مبارك.

تُعرِّف مصلحة الأمن المصرية الشخص الخطر بأنه "الشخص الذي أتى أو اشترك في أفعال يُجرِّمها القانون، وينمُّ عن نزعة إجرامية تُهدِّد الأمن العام، واتخذ من الوسائل غير المشروعة مصدرا للعيش والكسب". (5) وقد وُلِد نحو ربع هؤلاء الخطرين من الذكور و43% من نظرائهم من النساء في القاهرة. هذا واحتلَّت المحافظات الحضرية، مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس، النسبة الأعلى لوجود الخطرين، وأتت في المرتبة الثانية محافظات وجه بحري، وتضم الإسماعيلية ودمياط والقليوبية والدقهلية والشرقية والبحيرة والغربية وكفر الشيخ والمنوفية، ثم أتت محافظات الوجه القبلي في المرتبة الثالثة.

أشارت البيانات إلى أن محافظة الجيزة صاحبة المرتبة الأولى بين محافظات الوجه القبلي في نسبة المُسجَّلين خطرا بها، حيث بلغت حصتها 56% من إجمالي المُسجَّلين في تلك المحافظات، ثمَّ محافظة الفيوم بنسبة 9.2%، ثم محافظة أسيوط (7.3%)، ثم قنا (7%)، ثم بني سويف (6%). وقد احتلَّت محافظة الجيزة المرتبة الثانية بعد محافظة القاهرة على مستوى الجمهورية، إذ بلغت نسبة المُسجَّلين خطرا بها 14% (من الذكور) و6% (من الإناث) من إجمالي المُسجَّلين خطرا على مستوى الجمهورية. وأخيرا، أتت في المرتبة الرابعة محافظات الحدود (البحر الأحمر ومطروح والوادي الجديد وشمال سيناء وجنوب سيناء) بنسبة نحو 2.1% من إجمالي المُسجَّلين خطرا.

تراوحت أعمار نصف الخطرين الذكور ونحو 40% من الخطرات الإناث بين 20-30 عاما، في حين تجاوز نحو ثلث الخطرين الذكور وربع الخطرات العقد الثالث من عمرهم. وقد أوضحت البيانات أن نحو 60% من الخطرين الذكور واقعون في فئة "أعزب"، أما الإناث الخطرات فنحو ربعهن فقط عزباوات، بينما أكثر من نصفهن متزوجات.

أما ما يخصُّ الحالة التعليمية، فإن ثلثي المُسجَّلين خطرا ذكورا وإناثا أميُّون لا يُجيدون القراءة والكتابة، وقد تنوَّعت مهن هؤلاء ما بين الحِرَف اليدوية التي عمل بها 23% من الذكور و5% من الإناث، والعمل بالسواقة والفلاحة والتجارة، بالإضافة إلى العمل عُمَّالا وباعة جائلين وغير ذلك. أما النسبة الأكبر من الذكور المُسجَّلين خطرا فكانوا عاطلين عن العمل بنسبة تقارب 45%، في حين مَثَّلت ربات البيوت النسبة الأكبر من المُسجَّلات خطرا بنحو 89%. هذا وارتكب نصف المُسجَّلون والمسجَّلات خطرا جرائم سابقة، وتوزَّعت جرائمهم بين التجارة في المخدِّرات والسرقة والاعتداء والآداب والغش والتزوير والرشاوى وحيازة السلاح والتهريب والاتجار بالعملة.

من "الفتوَّة" إلى "البلطجة".. تاريخ منسي

ارتبط مفهوم "الفتوَّة" و"الفَتْوَنْة" تاريخيا بجماعات من قُطَّاع الطرق المُنظَّمين الذين ظهروا على حواف أحياء المدن الإسلامية وعمدوا إلى سرقة الأغنياء لصالح الفقراء، وسمُّوا بـ"الشُّطَّار والعيَّارين". بيد أن دور هؤلاء "العيَّارين" لم يبرز بقوة في المدن إلا بعد الحرب التي دارت بين الأمين والمأمون في بغداد، إذ انضمُّوا إلى الأمين دفاعا عن بغداد لا عن الأمين نفسه، وقد ذكر المؤرِّخ "المسعودي" صورا من بطولاتهم الفردية وشجاعتهم رغم قلَّة العُدَّة والعتاد. (6)

مع ضعف السلطة في العصر العباسي الثاني، انتشرت حركات الشطَّار والعيَّارين الذين مَثَّلوا تكتُّلات شعبية ولم يلتزموا بقانون السلطة، وقاموا بأعمال السلب والنهب، حتى شرع الخليفة "أبو العباس الناصر لدين الله" (553-623هـ) في تنظيم تلك المجموعات بوصفها حركة مجتمعية لها نظام أخلاقي وقانوني هي حركة "الفتوَّة" التي شارك فيها أكابر وأعيان المدن. وقد انضم كثيرون إلى الفتوَّة من أرباب الحِرَف، لكن بعد انتهاء حكم الناصر لدين الله تفرَّقوا وعادوا لسلوك "الشطَّار والعيَّارين". (6) وقد بقي "الفتوَّات" بالمدن في عهد المماليك حتى وقع الغزو الفرنسي لمصر عام 1798، فبرز دور الفتوَّات الذين سجَّلوا مع عموم الشعب المصري ملاحم التصدي للحملة الفرنسية، وقد دوَّنها الدكتور "حسين مؤنس" في كتابه "عصر الفتوَّات".

كان لكل حي من أحياء القاهرة فتوَّاته، وكان لهم صيت ونفوذ في الأحياء، حتى إن "حسن البنا" المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين قد أثنى على أحدهم، وهو "إبراهيم كروم" فتوَّة حي بولاق، لنصرته الضعيف ودوره في رد الحقوق، فقال: "كان إبراهيم فتوَّة الأشقياء، فأصبح الآن فتوَّة الأتقياء"، (7) كيف إذن تحوَّلت الفتوة إلى البلطجة؟

بعد استحواذ تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في يوليو/تموز 1952، تأسَّست الجمهورية المصرية مستندة إلى عقد اجتماعي جديد، حيث تنازل المجتمع بأطيافه كافة من حركات اجتماعية وعمالية ومهنية ونقابية عن جزء من ذاتيتها وحريتها في المجال العام والنظام السياسي، مقابل أن توفِّر لهم "دولة يوليو" مكاسب مادية ومعنوية ووظائف ودعما ماديا، فشكَّلوا بعدئذ جزءا كبيرا من دولة "الرعاية".

بيد أن هذه المكاسب وتلك "الرعاية" سرعان ما انهارت بعد قرار الانفتاح الاقتصادي الذي اتخذه الرئيس "محمد أنور السادات"، ومن ثمَّ اختل العقد المُبرَم في العهد الناصري، وفقدت الدولة هيمنتها الثقافية وخفت خطابها المؤثِّر، وتصاعدت معدَّلات البطالة والفقر تزامنا مع استمرار الهجرة من الريف إلى المدن، وعندما قرَّرت الدولة رفع الدعم عن السلع الأساسية حدثت انتفاضة الخبز في يناير/كانون الثاني 1977، وخرجت حينها جموعُ الأهالي من المناطق الشعبية إلى شوارع القاهرة والإسكندرية.

استمرت الدولة في الانسحاب من المجتمع طيلة العقدين التاليين، وحاولت في الوقت نفسه هندسة المجتمع من الخارج دون أن توفر الحد الأدنى من التعليم والصحة والوظائف والسكن، مع حرصها على تضخيم الدور الأمني وشبكة المخبرين والمرشدين، ومحاصرة معارضي النظام، مع التركيز على هزيمة الإسلاميين وإضعاف نفوذهم بالمناطق الشعبية، عبر التشويه تارة، والملاحقة تارة.

مع تولِّي اللواء "حبيب العادلي" وزارة الداخلية عام 1997، شهد التعامل الأمني مع المجرمين تحوُّلا كبيرا، إذ اتجهت إدارتا مباحث أمن الدولة والمباحث العامة إلى اتباع سياسة تجنيد فئة من المُسجَّلين خطرا لنقل المعلومات عن حركة بيع المخدِّرات والأسلحة، وأماكن الفارِّين من الأحكام القضائية، وهم مَن عُرِفوا بين العامة باسم المرشدين أو المخبرين. كما بدأ استخدام ضباط أقسام الشرطة للمجرمين السابقين بوصفهم معاونين لتأدية مهمَّات خارج نطاق القانون، مقابل غض النظر عن تحرُّكاتهم وبعض جرائمهم. ثمَّ سرعان ما ظهر استخدام هؤلاء "المُسجَّلين خطرا" على الساحة السياسية منذ الانتخابات البرلمانية عام 2000، وخاصة عام 2015، حيث بدأ النظام السياسي ورجال الحزب الوطني المنحل باستخدام "البلطجية" لترويع ومهاجمة الناخبين والمرشحين من المعارضة حينذاك.

في هذا السياق، صرَّح "أبو العلا ماضي"، رئيس حزب الوسط المصري، خلال مؤتمر لحزبه في مارس/آذار 2013 أن الرئيس الراحل محمد مرسي (في أثناء ولايته القصيرة) قال إن المخابرات العامة شكَّلت منذ سنوات تنظيما مكوَّنا من 300 ألف بلطجي، بينهم 80 ألفا في القاهرة. (8) وأضاف ماضي أن المخابرات سلَّمت ذلك التنظيم إلى المباحث الجنائية، التي سلَّمته بدورها إلى أمن الدولة (الأمن الوطني حاليا)، موضِّحا أن أمن الدولة هو مَن أدار التنظيم خلال آخر سبع سنوات قبل ثورة "25 يناير". غير أن دراسة أخرى صدرت عام 2010 أكَّدت أن عدد المُسجَّلين خطرا بلغ مليونا و244 ألفا و680 في جميع فئات الجرائم. (9)

بسبب الدور الذي لعبه هؤلاء "المُسجَّلون خطرا" و"البلطجية" فإنهم باتوا مطلوبين في قطاع واسع من الأعمال، بداية من التأجير والعمل بوصفهم فِرَق حماية بالملاهي الليلية، ولدى عصابات المخدِّرات والسرقة والخطف، إلى مرافقة قوات الأمن في فضِّ التظاهرات والاعتصامات وترويع الناخبين ومحاصرة نفوذ الإسلاميين بالمناطق الشعبية. ثمَّ تحوَّل الأمر إلى "تجارة خاصة"، وظهرت عدة مكاتب بالقاهرة والجيزة والقليوبية والإسكندرية تحت اسم "شركات تصدير واستيراد"، لكنها كانت في الحقيقة مكاتب لتأجير البلطجية مقابل 500 جنيه للساعة الواحدة. (10)

في هذا السياق برز اسم إمبراطور عالم الجريمة "صبري نخنوخ" الذي بدأ مملكته بصالة رياضية لرفع الأثقال، تحوَّلت سريعا إلى مدرسة خاصة لتخريج البلطجية، وتوريد العشرات من الحُرَّاس الشخصيِّين الذين سيطروا على قطاع أعمال تأمين صالات الملاهي الليلية، مع خدمة توريد الحُرَّاس للفنانين والشخصيات العامة، ما جعله يتربَّع على عرش أكبر تنظيم للبلطجية في عالم العاصمة السفلي غير القانوني.

صعود عالم الجريمة في مصر

شكَّلت علاقة نخنوخ بـ"بدر القاضي"، اللواء السابق بأمن الدولة في دائرة بولاق، بوابته لتدشين علاقات ممتدة مع وزارة الداخلية والحزب الوطني قبل يناير/كانون الثاني 2011، إذ وفَّرت له علاقاته بالداخلية تراخيص الأسلحة وأجهزة الاتصال اللا سلكية، المقصورة سابقا على قوات الأمن، وفي المقابل، كان لنخنوخ دور فاعل في توفير البلطجية خلال انتخابات أعوام 2005 و2006 و2010 لإحكام سيطرة الحزب الحاكم على صناديقها. (11)

بفضل توسُّع نشاطه وعلاقاته بالمؤسسة الأمنية، تحوَّل نخنوخ إلى رجل أعمال، فأسَّس مكاتب لتوريد البلطجية ظهرت في البساتين والمهندسين والهرم وفيصل بالقاهرة. ثمَّ ترقَّى نخنوخ عبر علاقته بوزارة الداخلية ووزيرها حبيب العادلي، ما وفَّر له نفوذا غير مسبوق، وسطوة وقوة تصاعدتا تدريجيا وأتاحتا له الدخول في حل النزاعات عرفيا، وحماية منشآت وأراضٍ استثمارية متنازع عليها. صار نخنوخ إذن الرئيس الفعلي لعالم الجريمة، وقائد جيش البلطجية الأكثر تنظيما في مصر، ومثالا واضحا وفجا على الصعود الاجتماعي السريع والثراء الصاروخي الذي أمكن تحقيقه بالعمل في شبكات عالم الجريمة.

استمرت شبكات نخنوخ في عملها حتى بعد الثورة المصرية عام 2011، حيث استخدمت قوات الأمن تلك الشبكات في مواجهة التظاهرات بين عامَيْ 2011-2015. وهنا يجدر بنا أن نذكر الطريقة التي تعمل بها تلك الشبكات على المستوى الاجتماعي، إذ يرتبط هؤلاء "المُسجَّلين خطرا" و"البلطجية" بالعصابات المتخصصة في سرقة السيارات أو نهب الأموال أو قطع الطرق أو تجارة المخدِّرات، وهي كلها "اختصاصات" مختلفة تُشكِّل شبكة اجتماعية قائمة على تبادل المصالح، وتُطوِّر في الوقت نفسه ضربا من ضروب التضامن الاجتماعي والولاء.

بينما تزايد الطلب على البلطجية طيلة تلك الأعوام، باتت "البلطجة" مهنة ذات طريق مرسوم وآلية صعود اجتماعي خاصة بها، انتقل عبرها "الشقي أو المُسجَّل خطرا" من فرد يشترك في بعض الأعمال الإجرامية مقابل أموال قليلة أو يوزِّع بعض المخدِّرات، ويشترك بالطبع في العنف الجسدي مع أقرانه لبناء سمعته بالمنطقة، إلى "مَعلِّم" يُشغِّل عددا من الأفراد مع توجيه أمواله إلى استثمار أوسع قد يقتصر على مقهى أو يتوسَّع إلى شركة تُقدِّم خدماتها لصالح النخبة المرتبطة بالسياسة.

تزامن هذا الصعود غير المسبوق "للبلطجية" مع تنامي معدلات الجريمة في المجتمع المصري، خاصة مع انسحاب الدولة من دورها في الرعاية الاجتماعية، وسقوط شبكات التكافل الاجتماعي التي لعب الإسلاميون دورا رئيسا فيها بعد نهاية النظام الناصري. ليس غريبا إذن مع اضمحلال اللُّحمة الاجتماعية الناصرية، ومن بعدها الإسلامية، أن تتصاعد ظاهرة الجريمة والعنف بعد عام 2013 في ظل غياب بديل حقيقي يوفِّر الحد الأدنى من الشرعية والرعاية الاجتماعية، وذلك بالتزامن مع ارتفاع معدَّلات الفقر والبطالة، وتآكُل الوازع الديني والأخلاقي، واستمرار نظام "التسجيل خطرا" واستغلال ضباط الشرطة لهؤلاء "المُسجَّلين خطرا" لتحقيق مصالحهم الشخصية أو مصلحة النظام.

في الأخير، كان هذا ما عبَّرت عنه البيانات الرسمية نفسها، حيث ذكر 60% من شريحة عشوائية للمُسجَّلين خطرا أن إيقاف الجريمة يعتمد على توفير مصدر رزق لهم، وفي حين قال 40% بضرورة تقليص البطالة، واقترح 30% إلغاء نظام التسجيل خطرا، فيما عبَّر نحو 25% عن ضرورة تنمية الوازع الديني بالمجتمع. ولكن في غياب ذلك كله، وفي ظل عدم وجود إرادة حقيقية للتعامل مع الجذور الاجتماعية والاقتصادية للأزمة، فضلا عن جذورها السياسية والأمنية، ربما لا يمكننا أن نأمل أن تختفي مظاهر "البلطجة" من شوارع مصر في أي وقت قريب.

المصدر : الجزيرة