بليغ حمدي.. "الغنوة الحلوة" التي ملأها الدمع

إعلان

ينطلق من النافذة المُشرَعة هواء باريس البارد، وعندما يُلامسه، يرتجف. تناوبت على الجسد مَعاول الغُربة والمَرض، وعلى الروح طعنات الغدر والوحدة، وشمس الدفيء دفنتها غيوم المنفى وما عادت تبُث في القلب السكينة.

تُطل العينان الحزينتان على مشوار العُمر الطويل وتنظر إلى ما آل إليه. وكأن كل جميل غادره، وكأن الحياة صارت بلا معنى أو هدف، وكأن النهاية وَشيكة ولم يبق عليها سوى الوداع. أخذ العود رفيق الدرب وصب ألمه في الأغنية:

إعلان

بودعك وبودع الدنيا معك”

جرحتني قتلتني وغفرت لك قسوتك

بودعك من غير سلام ولا ملام

ولا كلمه مني تجرحك

أنا أنا أنا أجرحك؟!

بسم الآلام ارحل أوام

إعلان

 حبي الكبير حيحرسك في سكتك

الله معك”(1)
 

رحلة طويلة قطعها “بليغ حمدي” في الحياة والفن ولم يتصور أحد يومًا أن تكون آخر محطاتها في صقيع المَنفى. كيف وهو من اتخذ من الحب وقوده للوجود؟ كيف وقد أغدق به على كل ما حوله، بداية من الموسيقى الشرقية التي عشقها وأثراها بمئات الألحان الخالدة، مرورًا بالوطن الذي ارتبط به ارتباط الطفل بأمه وليس انتهاءً بوردة التي لم يدقّ القلب لسواها. كيف صار كل ذلك الحُب الذي بذله إلى رماد؟ كيف انتهت القصة التي كانت بدايتها الطرب والحب بالقسوة والهجر؟

إعلان

   

استمع للتقرير
إعلان
 
إعلان
  
“ساعة لقلبك بتقول فرفش واضحك على طول”

بدأت قصة بليغ حمدي في حي التوفيقية بشُبرا حيث جاء إلى الحياة مُحملًا بحب للموسيقى، (2) ولم يمر وقت طويل قبل أن يشعر أبويه بذاك الحُب يتدفق منه. فتروى صفية حمدي أخت بليغ الكُبرى: “بليغ متعلمش الفن وهو كبير، أتذكر مرة وهو عنده 7 شهور إن أمي كانت تقعده وتحطله المخدات وهو يلعب بالمعلقة والشوكة فبابا وقف كده وقعد يبص له، راحت أمي قايلاله: “مالك يا حمدي؟” قالها: “شوفي يا عيشة ابنك ده طالع مزيكاتي”، قالتله: “يا سلام!” فرد عليها: “أديني قلتلك وإن كنت عايش هفكرك وإن كنت مُت قوللي والله يا حمدي قُلتها حجة”.(3)

إعلان

 
وكأن تلك الكلمات تسربت بشكل ما إلى لاوعي بليغ وأخذت تكبر معه، يروي لنا مرسي سعد الدين حمدي أخوه الأكبر: “بليغ وهو صغير وعنده سبع سنين أتذكر كانوا يسألونا يا حبيبي لما تكبر عايز تبقى إيه، إللي يقول عايز أبقى دكتور واللي يقول عايز أبقى مُهندس أما بليغ فكان يقول عايز أبقى مزيكاتي.”(4) وفي نفس السياق تروي صفية: “كان هادي على طول وتملي سرحان لحد ما كان عنده سبع سنين وراح لباباه وقاله “عايزني أنجح؟” قاله “آه طبعًا”، قام رد عليه: “طب هاتلي العود”.(5)

 
وصار العود مُنذ تلك اللحظة رفيقه الأعز، وحتى عندما جاءت لحظة الاشتباك مع العالم الواقعي وتوجب عليه اختيار أي شيء سيدرس، دخل كلية الحقوق إرضاءً لوالديه، وفي الوقت ذاته، تابع دراسته الموسيقية في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية ثم في المعهد العالي للموسيقى المسرحية.(5) لكن في عامه الدراسي الثالث، طغى وَلعه بالموسيقى على كل ما عداه فترك كلية الحقوق ليتفرغ لحلمه الأكبر: أن يصير “مزيكاتي”.

إعلان

 
كانت الإذاعة أولى محطات تحقيق هذا الحُلم، فتم قبوله بها كمُغني، وشكل مع صديقه صلاح عرّام وبضعة أصدقاء آخرين فرقة موسيقية توّلت بعدها عزف وغناء أغنية برنامج “ساعة لقلبك”. وبالرغم من تَعُنت مدير الإذاعة آنذاك “صلاح شُجاعي”، وإصراره على وضع بليغ في إطار المُغني لا المُلحن، استطاع بليغ إثبات موهبته ولم يَمُر وقت طويل قبل أن يبدأ في تلحين أول أغانيه الشهيرة: “تخونوه”، تلك التي غناها عبد الحليم حافظ في فيلم “الوسادة الخالية”، والتي ستطلق فيما بعد شرارة الحب الأعظم في حياته. (6)(7)

إعلان

“حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه؟”

على يد سيدتين ستتغير حياة بليغ حمدي بالكامل. أما الأولى فهي سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وقد بدأت حكايته معها بأغنية “حُب إيه”. كان صديقه المُهندس عبد الوهاب مُحمد قد كتب كلماتها بينما تولى هو التلحين. وعندما قام كعادته بغناء الأغنية على العود أمام جمع من الأصدقاء، نالت إعجابهم الشديد ليقرر واحد منهم وهو الفنان محمد فوزي أن تلك أغنية جديرة بصوت كوكب الشرق.

إعلان

 
سعى محمد فوزي لتحقيق هذا وقام بالفعل بتدبير لقاء يجمع بين بليغ الذي كان بعد شاب في العشرينات وأم كلثوم. ولعلمه بخجله الشديد، أخفى عنه السبب الحقيقي لهذه المُقابلة(8). يروي لنا بليغ عن تلك الليلة: “جابولي العود وقالولي غني “حُب إيه”، قُلتلهم “حُب إيه” إيه! أم كلثوم قاعدة! اتكسفت جدًا ومبقتش عارف أعمل إيه. قالت لي تعالى جنبي هنا ولقيت نفسي بقوم أوتوماتك وأقعد جنبها، قالت لي سمعني بيقولوا إنك عامل حاجة حلوة، قلتلها غنوة عادية يعني، قالتلي بس قولها يا أخي”.

وفي اليوم التالي، دعّت أم كلثوم بليغ لبيتها وأخبرته برغبتها في غناء “حب إيه”، وعن هذا يقول: “أم كلثوم لغت كل التقاليد، لما تبعت لفنان شاب عُمره واحد وعشرين سنة عشان تسمعه. وبعد مش أكتر من نص ساعة، حسيت إني أعرفها أكتر من عشرين سنة. كنت متصور إني هاخد وقت طويل قبل ما ابدأ بروفات مع أم كلثوم، لقيت نفسي بعد أسبوع واحد ببدأ بروفات مع الفرقة الموسيقية. اللحن سمعته حبته كله على بعضه.” (9)

 

إعلان

 
هكذا كانت “حب إيه” إيذانًا ببداية رحلة طويلة سيقطعها بليغ حمدي مع أم كلثوم، كانت ثمارها اثنتي عشر أغنية من أجمل ما غنت “الست”، فيها كان العطاء بينهما مُتبادلا. ففي الوقت الذي أصبغ فيه بليغ على ألحانها روح الشباب والتجديد، أعطته هي صوتها ليكون أفضل بداية لمشواره الفني الذي سيمتد ليغطي حياته بأكملها، ويُعبّر بليغ عن هذا فيقول: “من خلال أم كلثوم وعظمتها، كنت بحس إني بعبر الطريق للمشرق والمغرب العربي”. (10) ولم يكن صوت أم كلثوم بوابته إلى عالم الفن فقط، فبعد أن بدأت أول فصول قصة بليغ مع الفن، سرعان ما تبعتها خطواته لعالم الحُب، ذاك الحُب الذي سيتخذ في إحدى مَراحلة من صوت الست مرسال للحبيب الغائب.
 

إعلان
“كل غنوة عالحب كانت كتبتها وقلتها كانت عشانك”

على بُعد آلاف الأميال، لم يكن بليغ حمدي يعلم أن القدر قد بدأ بالفعل يغزل خيوط العشق الذي سيجمع بينه وبين شابة جزائرية مليحة. فعندما شاهدت “وردة” ذات الستة عشر عامًا فيلم “الوسادة الخالية” بدمشق، أسرّتها أغنية “تخونوه”، لكن على العكس من قريناتها اللاتي شُغفن بصوت عبد الحليم حافظ، بقي إعجابها مُنصب على ذاك الرجل المُختبئ وراء اللحن، والذي لم تعرف عنه في ذلك الحين شيئا. تقول وردة: “حبيته في تخونوه، شُفت وسمعت الأغنية دي في فيلم لعبد الحليم وقلت الراجل ده أنا لازم أعرفه”(11)

إعلان

وعندما ساقتها الأقدار إلى مصر، كان لها ما أرادت. ففي بيت محمد فوزي، قابلت مُلحن “تخونوه” الذي أحبته على الفور وبادلها حُبًا بحُب. لكن القدر الذي كان سببًا في اللقاء، سيُعاكس الحبيبين هذه المرة ويزرع بينهما المسافات. فطرد والد وردة بليغ عندما ذهب إليه يطلبها للزواج، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فالوالد الذي رغب في عزل ابنته عن الوسط الفني تمامًا أرغمها على السفر للجزائر والزواج من ضابط منعها عن الغناء. وهكذا طارت حبيبته بعيدًا ولم تُخلف في القلب سوى الألم. (12)

شهد على هذا الألم ألحانه في تلك الفترة، والفقرات التي وضعها هنا وهناك في الأغاني، مُتخذًا منها رسائل سيسمعها الملايين لكن وحدها المُحبوبة ستعرف أنها موّجهة إليها، ومنها ما جاء في أغاني أم كلثوم:”بعيد عنك حياتي عذاب متبعدنيش بعيد عنك” و”أنساك ده كلام أنساك يا سلام”. يقول وجدي الحكيم عن هذا: “مفيش غنوة عملها بليغ في الفترة دي وغنتها فنانة بما فيهم أم كلثوم نفسها إلا كانت رسالة حُب لوردة في الجزائر.”(13)
 

إعلان
 بليغ حمدي ووردة (مواقع التواصل )


وفي سنوات البُعد الطويلة، كان أن كتب صديقه محمد حمزة كلمات أغنية “العيون السود” التي أستلهمها من واقع حب بليغ ووردة. لَحّن بليغ الأغنية ورفض أن يعطيها لأي مُغنية، فكان في القلب أمل اللقاء حيًّا، ومعه، أمنية أن يستمع يومًا إلى صوت الحبيبة يشدو بالأغنية التي من أجلها كُتبت. (14)

إعلان

وبعد عشر سنوات كاملة، جاء اللقاء. حدث هذا مرة أخرى بترتيب القدر، عندما طلب رياض السنباطي من بليغ أن يُسافر بدلًا عنه إلى الجزائر ليحضر عيد استقلالها. وهناك قابل الحبيبة الغائبة، وشعر بحرارة الحُب لا تزال مُتقدة بقلبها. ولم يكن من وردة حينها إلّا أن طلبت من زوجها الطلاق وعادت مجددًا لكل من هجرت: إلى مصر، وإلى الغناء، والأهم من كل هذا، إلى بليغ.

في عام 1972، تزوج بليغ ووردة، وكانت “العيون السود” أول ما غنّت بعد عودتها إلى مصر من تلحينه، فتحقق الحلم أخيرًا وسمع صوتها يشدو:

إعلان

وعملت ايه فينا السنين؟”

 عملت ايه؟

فرقتنا؟ لأ

إعلان

 غيرتنا؟ لأ

 ولا دوبت فينا الحنين

السنين

إعلان

لا الزمان ولا المكان قدروا يخلو حبنا

ده يبقى كان” 

وهكذا اجتمع الحبيبان مجددًا، وظل الفن يُشكّل جذور علاقتهما ورافدا أساسيا من روافدها. فتقول وردة: “عشقت في بليغ فنه”، وتحكي أنه كثيرًا ما كان يوقظها ليُسمعها لحن ألّفه، وهي كثيرًا ما كانت تذهب إليه لطلب المشورة في أغانيها التي تعاونت فيها مع مُلحّن آخر. (15)
 

إعلان


إعلان

لكن القدر مرة أخرى أبى أن تدوم بينهما السعادة، فلم يستمر الزواج سوى سبع سنوات، انفصلا بعدها، ولم يتزوج أي منهما مرة أخرى. يُقال إن هذا يرجع لعدم تَحمُل وردة لحياة بليغ التي غلبت عليها الفوضاوية، ويقال إنه قام بخيانتها، لكن الأكيد أنه لم يُحب في حياته أحدا سواها. في أحد اللقاءات، عندما سُئل بليغ عن وردة، قال: “خدت منها الحب، والحنان، والدفا، والرقة والصدق عالآلة”.(16)

وفي سنوات الزواج التي لم تطل، اتخذ بليغ من صوت وردة مرسال، لكن هذه المرة لمحبوبة أخرى، لم يُفارقه هواها وظل يتحدث به طوال حياته، كما كانت الباعث الأساسي لأسلوبه الموسيقيّ الذي ألهمه حُبها إياه.

إعلان
“حلوة بلادي السمرا بلادي الحُرة بلادي”

ظلت محبوبة بليغ الخالدة هي مصر، أحبها حُبا من طراز خاص، نأى تمامًا عن الزيف والادعائية، وجاش بالمشاعر الدافئة. تقول وردة عن هذا: ” ألحان بليغ نقرة، وأحاسيسه لبلده دي نقرة تانية كبيرة. كان يحب يسافر كتير، لكن مُجرد ما يبعد أسبوع يقعد يقول: “وحشتني، وحشتني القاهرة، وحشتني البلد”. (17)

إعلان

وعلى النقيض من الشعارات الرنّانة الفارغة، والأبواق العسكرية الفظّة، جاء حُب بليغ لمصر والأغاني التي عبرّت عنه، فحُبه كان ينبض بالصدق الذي تدفق في الألحان ليغيّر وجه الأغنية الوطنية للأبد. يقول ابن أخيه تامر حمدي: “بليغ كان بيغني لمصر لأنه بيحبها من غير وسيط، كان أول واحد خد السكة بتاعت إن مصر دي مش لازم تبقى مارشات عسكرية وفيها سلاح، في “يا حبيبتي يا مصر” مثلًا ده واحد بيتغزل في بلده.”(17) ويقول صديقه الموسيقار محمد نوح: “بليغ غنى للوطن زي ما يكون الحبيبية، وغنى للحبيبة زي ما تكون الوطن.”(18)
 

إعلان


وفي يوم السادس من (أكتوبر/ تشرين الأول)، أبى عليه ذلك الحب أن يجلس في بيته مكتوف الأيدي وبلده في الميدان تخوض معركة الحرية. ففعل ما كان في استطاعته كمُلحن، وأخذ زوجته وردة واتجها معًا للإذاعة حتى يسجلا الأغاني الوطنية. يروي لنا ابن أخيه هيثم حمدي قصة ذلك اليوم ويقول: “في 73، بليغ راح الإذاعة لوحده من غير ما يتطلب منه حاجة يوم الحرب. مرضيوش يطلعوه، قالهم هيعملهم محضر، بابا شارو كان وقتها رئيس التليفزيون قالهم طلعوه بليغ ده مجنون فاضطروا يطلعوه. قالوله معندناش ميزانية لتسجيل الأغاني الوطنية اليوم ده، قالهم هدفع من جيبي. الناس دي جت طبعًا ومحدش رضي ياخد حاجة. الأغاني اتغنت ونزلت كانت تاني يوم بتتذاع. وفي الأغنية بتاعت “بسم الله الله أكبر”، بيقول “ونقول يا رب النصرة تكمل”، بليغ كان بيغني للحرب وهي شغّالة ومغنّاش ليها بعدها. غنى لأكتوبر يوم ستة أكتوبر والأغاني اتذاعت يوم سبعة أكتوبر.”(19)

  
وقد انعكس ذلك الحُب أيضًا على أُسلوبه التلحيني الذي استلهم الفلكلور المصري والشعبيات بشكل كبير، فعلى العَكس من المُلحنين الذين تأثروا بالموسيقى والأوركسترا الغربية، حَلم بليغ بوصول الموسيقى الشرقية إلى العالمية، وأن تكون هي صاحبة التأثير (20)، كان يقول: “أنا مش خواجة، أنا ابن البلد دي.”(21)
 

إعلان

لهذا الأمر جذور تعود إلى طفولته نفسها، يروي بليغ: “الواقع إن أنا طلعت سمعت من أُمي شعبيات كتير، سمعت منها فلكلور كتير، كانت طول ما هي في البيت بتغني، حفظت منها اللي كانت بتغنيه واترسب جوايا. مصر مترسبة جوايا. كنت دايمًا بقول طب ليه العالم ميسمعناش؟ وكنت بحب أوي العازفين اللي بيمشوا يبيعوا الربابات في الشارع، مُتيّم بالحكاية دي. دايمًا عندي إحساس إن الناس دي بتقول حاجة مُهمة وبتساءل: طب ليه منقلهاش إحنا؟”(21)
 

أراد بليغ أن يلتقط في أغنياته ذاك اللحن التائه وسط الزحام في شوارع مصر، أن يعزف عبره على أوتار آلام المصريين وأحلامهم، فتردد في الغنوة أصداءهم المَنسية. يقول بليغ: “المصريين ليهم في حزنهم وفي فرحهم غناء خاص تمامًا، من أول السبوع، ومن الميلاد للموت، من الفراعنة لغاية دلوقتي هتلاقيه واحد، حتى في الدفن والمقابر، لينا حاجة متفهمهاش. يعني دايمًا أحس إنها موجودة ودايمًا بدوّر عليها. كنت دايمًا عايز أقول اللغة المفقودة دي، لغة غناء فيها أمي. من أول عدوية لأسمراني اللون لمتى أشوفك لفيلم شيء من الخوف، كل الحاجات دي ليها شجن، ليها إيقاع خاص في داخلي، قلته وأنا بلحن لعبد الحليم مثلًا خسارة يا جارة، قلته في صولو أكورديون في ألف ليلة وليلة، وكنت مُتعمد ده وقاصده، لأني بحس إن ده إحنا، بحس إن جوانا لغة خاصة زي ما بقول من الميلاد للموت، يمكن لحد دلوقتي مقدرتش أقول منها حاجة، لكني دايمًا بحاول.”(22)
  

إعلان

 
وعبر تعاونه مع محمد رشدي تارة وعبد الحليم حافظ تارة، استطاع بليغ أن يُعيد للأغنية الشعبية رواجها، فمن “مغرم صبابة” و”متى أشوفك” و”طاير يا هوا” إلى “سوّاح” و”وأنا كل ما أقول التوبة” و”على حسب وداد قلبي”، خلق بليغ ألحان استلهمت الفلكلور المصري ودمجته مع الآلات الحديثة ليُشكلا معًا مزيجًا نطقت من خلاله تلك اللغة الخاصة التي أراد التقاطها، وكوّنت علامة فارقة في تاريخ الأغنية المصرية.

“تُهنا سنين ولا عارفين بكرة شايل إيه لينا”
إعلان

وليس أقل من حُب بليغ لمصر كان حُبه لشبابها الموهوب الذي اجتهد في سبيل مُساعدته. فعلى العكس مما توّجه إليه الآخرون من الترّحُم على الزمن الجميل ونبذ أعمال الشباب المُعاصرة، توّجه بليغ إلى الشباب بالتشجيع على المُحاولة الجادة وقدم إليهم يد المُساعدة، فكان يقول: “سيبوا الشباب يغني ويغلط أحسن ما يُسكت خالص”.

هذا وقد أبدى اهتمامًا صادقًا بهم عبّر عنه قائلًا: “أنا نفسي أقابل الشباب وأقعد معاهم، أشوف بيتبسطوا إزاي، بيفرحوا إزاي، بيزعلوا إزاي، إيه مشاكلهم، بيحبوا إزاي، بيفارقوا إزاي، بيتقابلوا إزاي. يعني أنا سمعتهم عالشرايط نفسي أشوفهم في الحقيقة. سمعت وعجبني عمرو دياب وأنغام وكذا صوت جديد.”(23)

وقد أخذ ذلك الاهتمام شكل مُحاولته الدائمة اكتشاف الأصوات الجديدة ووضعها على الطريق، بالإضافة إلى التلحين للمغنين الشباب ممن لمس فيهم موهبة حقيقية، فكان يقول: “أسعد وأجمل لحظة عندي اللي اكتشف فيها صوت جديد وأقدمه للعالم العربي كُله.” (24)
  
وقد كانت عفاف راضي من أهم اكتشافاته الفنيّة، ففي الوقت الذي رفض فيه ملحنون آخرون التلحين لها بسبب صوّتها الأوبرالي الذي حكموا بعدم مُناسبته للأغنية الشرقية، صمم بليغ على مُساعدتها والتلحين لها، ويروي وجدي الحَكيم عن هذا: “كان عاشق لكل صوت جديد، وكان يبحث، زي ما عمل مع عفاف راضي. مُجرد ما سمع إن في مُطربة من الأوبرا بتغني شرقي بشكل جميل صمم يساعدها، ومنذ أن استمع إليها وهو بيعتبر نفسه مسئول عنها”(25)
 


ولم يتوقف الأمر عند عفاف راضي، فقد لحّن لكثير من شباب كبروا ليصبحوا نجومًا مشهورين، منهم محمد منير الذي لحّن له “أشكي لمين”، وعلي الحجّار الذي لحّن له تتر مسلسل “بوابة الحلواني”، وميادة الحناوي التي لحّن لها أغاني كثيرة أبرزها “أنا بعشقك”.


وعن مُساعدة بليغ له، يروي محمد منير “بليغ كان قادر يجيلي في شقتي وأنا طالب في الكلية قاعد في المهندسين، كان ممكن يعطل لقاء بينه وبين أُدباء وشخصيات مهمة جدًا في تاريخنا عشان يقعد مع مولود جديد”. ويضيف: “في تاريخ أي مُغني مؤكد محطات مُهمة وأغاني جميلة في حياته، وكلنا مجمعين على أن كل حاجة حلوة إحنا عملناها كانت صناعة بليغ”
(26)
 

“بوَدعك”
مع كُل ما قدمه بليغ للفن، ومع كل ما أضافه للأغنية، ومع كل من ساعد من فنانين، لم يُكن أحدًا أبدًا ليتوقع أن تأتي نهايته ويكون فيها مُكتنفًا بالوحدة والنفي، وأن يكون السبب في تلك النهاية هو طيبته وبابه المفتوح -حرفيًا- للجميع.

خطّ القدر تلك النهاية في إحدى ليالي عام 1984، حين استضاف في واحدة من السهرات التي كثيرًا ما كان يقيمها في منزله مُطربة مغربية اسمها “سميرة مليان”، وبعد أن غلبه التعب، استأذن المدعوين وراح لينام. في صباح اليوم التالي، استيقظ على صوت صرخات أخذت تتعالى من شرفة منزله، وعندما ذهب ليتفقد الأمر، اكتشف أن الفتاة المغربية قفزت من الشرفة لتقع على الأرض جُثة هامدة. لم تمُر سوى بضعة ساعات قبل أن يجد بليغ نفسه قد أصبح مُتهمًا في جريمتي قتل وتسهيل دعارة.
 

اتخذت الصحافة من الخبر مادتها لشهور عدّة، واستحال بليغ عبر صفحاتها من مُلحّن ذو تاريخ عريق، إلى عربيدٍ قاتل. لم ترحمه الأقلام وانهالت عليه تطعنه، وفي كل مقالة صحفي يُنظّر كم سنة من السجن سيُحكم عليه.

لم يكن بليغ عاشق الحياة والحرية ليتحمل السجن الذي صار يلوح في الأفق، ومن ثم سافر إلى باريس مُتخذًا منها مَسكنًا ريثما تظهر براءته. لكن عندما امتدت حبال القضية وطالت لتُغطي سنين عدّة، استحال ذاك الملجأ الاضطراري إلى منفى جلدّته فيه سياط الوَحدة والهجر، ونخرت الغُربة في صحته حتى انهارت.

بعد خمس سنوات كاملة ظهرت براءته، خمس سنوات قضاها في مُعاناة لم يقاسي مثلها في حياته، وحتى البراءة لم تُكن لتعوّضه عليها، فاستمرت صحته في انهيارها، واضطر إلى العودة لباريس لاستكمال العلاج. وفي برودة الغُربة، استسلم الجسد وصعدت منه الروح إلى السماء(27) ليلة الثاني عشر من (سبتمبر/أيلول) عام 1993.

   

في أحد اللقاءات، قال بليغ إن الفنان لا يموت حقًا، وإن رحيله عن الدُنيا هو مُجرد سفر، فطالما وُجد فنه وسط الناس فهو لا يزال يحيا. وبليغ، وإن مر على سفره عن دنيانا خمسة وعشرون عامًا، فما خلفه لنا من تراث موسيقي خصب لا زلنا نردد أغانيه حتى الآن، لهو خير دليل على هذا. (28)

المصدر : الجزيرة

إعلان