عصبة الأمم.. منظمة "السلام الدولي" التي فشلت في كبح جماح الحرب العالمية الثانية

الاجتماع الثاني لعصبة الأمم في 28 سبتمبر/أيلول 1920 (أسوشيتد برس)

"عصبة الأمم" منظمة ولدت عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1920، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، وأنشئت بهدف أن تكون "شرطيا دوليا" مهمته الحفاظ على السلام بين دول العالم ومنع الحروب والنزاعات، لكن تلك العصبة لم تنجح في منع اندلاع الحرب العالمية الثانية، فأدى ذلك إلى انحلالها في نهاية المطاف واستُبدلت بما يعرف اليوم بمنظمة "الأمم المتحدة".

النشأة والتأسيس

في 10 يناير/كانون الأول 1920 أُسّست أول منظمة دولية أخذت على عاتقها مهمة الحفاظ على السلام العالمي، واتخذت تلك المنظمة اسم "عصبة الأمم".

لكن "عصبة الأمم" تلك لم تضم جميع دول العالم، بل اقتصر مجلسها التنفيذي فقط على الدول القوية التي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، وهي إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان.

إعلان

وضمت العصبة في ذروتها في الفترة بين عامي 1934 و1935 قرابة 58 عضوا، وكانت اللغات الرسمية التي تعتمدها هي الإنجليزية والفرنسية.

كان الهدف الأساسي لعصبة الأمم هو منع أي حروب مستقبلية بعد الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، وكانت تعتزم تحقيق هذا الهدف عبر قيامها بعدد من الإجراءات، منها نزع السلاح وتسوية النزاعات الدولية من خلال لعب دور "الحكم" بين المتخاصمين وقيادة جهود التفاوض بين الدول المتصارعة.

وبعيدا عن حلم تحقيق السلام العالمي كان لعصبة الأمم مجموعة من الأهداف الأخرى التي شملت تحسين ظروف العمل، والاهتمام بالصحة العالمية، وحماية الأقليات في أوروبا، والاهتمام بمعالجة قضايا مثل أسرى الحرب والاتجار بالبشر والمخدرات وتجارة الأسلحة.

إعلان
الافتتاح الرسمي لعصبة الأمم في جنيف بسويسرا في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1920 (شترستوك)

تاريخ فكرة "عصبة الأمم"

على الرغم من أن عصبة الأمم تشكلت رسميا عام 1920، فإن فكرتها نشأت قبل ذلك بكثير، فقد طرحها أول مرة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط عام 1795، إذ اقترح وجود عصبة من الدول تهدف إلى السيطرة على الصراع وتعزيز السلام العالمي.

وفي عام 1910 طرح رئيس الولايات المتحدة ثيودور روزفلت الفكرة عند تسلمه جائزة نوبل للسلام.

ومع بداية الحرب الأولى بدأ التفكير بشكل جدي في تأسيس منظمة تضبط الصراعات الدولية وتمنع الحروب المستقبلية، وقد اتخذت الفكرة شعبية واسعة في بريطانيا والولايات المتحدة على وجه التحديد، وكان خبير العلوم السياسية البريطاني غولدي ديكنسون أول من صاغ مصطلح "عصبة الأمم" في عام 1914 ووضع رؤية لتنظيم عمل هذه العصبة.

وتضمنت النقاط رؤية "مثالية" للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، ووضعت الخطوط العريضة لسياسة التجارة الحرة والاتفاقيات المفتوحة والديمقراطية، وأكدت الحاجة إلى تقرير المصير القومي لمختلف المجموعات العرقية في أوروبا، كما دعت إلى إنهاء الحرب عن طريق التفاوض ونزع السلاح الدولي وانسحاب القوى المركزية من الأراضي المحتلة.

وفي سياق الجهود الدبلوماسية التي قادتها مجموعة من الدول خلال الحرب العالمية الأولى، ظهرت مجددا فكرة إنشاء منظمة سلام دولية لمنع الحرب في المستقبل من خلال نزع السلاح والتعاون الدولي.

من المسؤولين الرئيسيين عن صياغة ميثاق عصبة الأمم رئيس وزراء جنوب أفريقيا سابقا يان سموتس (غيتي)

وفي عام 1918 بادر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إلى صياغة "شروط السلام" في 14 نقطة، تضمنت رؤية "مثالية" للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، ووضعت الخطوط العريضة لسياسة التجارة الحرة والاتفاقيات المفتوحة والديمقراطية، وأكدت الحاجة لتقرير المصير القومي لمختلف المجموعات العرقية في أوروبا، كما دعت إلى إنهاء الحرب عن طريق التفاوض ونزع السلاح الدولي وانسحاب القوى المركزية من الأراضي المحتلة.

إعلان

اقترح ويلسون أيضا إنشاء رابطة عامة مهمتها التوسط في حالة النزاعات الدولية لمنع أي حروب مستقبلية.

وفي العام ذاته شكلت لجنة عرفت باسم لجنة "فيليمور" في لندن خرجت بتوصيات لإنشاء ما عرف باسم "مؤتمر الدول المتحالفة"، الذي يهدف لفض النزاعات وفرض عقوبات على الدول المخالفة، وتمت الموافقة على تلك المقترحات من قبل الحكومة البريطانية لتندمج لاحقا في "ميثاق عصبة الأمم".

كما صاغت فرنسا توصيات مشابهة في العام نفسه ودعت لتشكيل "جيش دولي" لتنفيذ القرارات المتفق عليها.

إعلان

وفي نهاية المطاف كان المسؤولان الرئيسان عن صياغة ميثاق عصبة الأمم هما السياسي البريطاني اللورد روبرت سيسيل ورئيس وزراء جنوب أفريقيا سابقا يان سموتس.

وأخيرا تم التوقيع على ميثاق عصبة الأمم في 28 يونيو/حزيران 1919 ضمن معاهدة فرساي، التي جاء إقرارها في "مؤتمر باريس للسلام". وعلى الرغم من أن عصبة الأمم كانت أكثر عالمية وشمولية نسبيا في عضويتها وهيكلها مقارنة بالمنظمات الدولية السابقة، فإنها كرست التسلسل الهرمي العرقي من خلال تقييد الحق في تقرير المصير ومنع إنهاء الاستعمار.

لجنة "والتر فيليمور" شكّلت في لندن وخرجت بتوصيات أدمجت فيما بعد في "ميثاق عصبة الأمم" (جامعة هارفارد)

هيكلة عصبة الأمم

نقل مقر العصبة من لندن إلى جنيف، وكان قصر ويلسون الواقع على شاطئ بحيرة جنيف الغربية أول مقر دائم للعصبة مع العلم بأن القصر سمي تيمنا بالرئيس الأميركي وودرو ويلسون.

إعلان

وعلى الرغم من جهود ويلسون لتأسيس العصبة والترويج لها، والتي أهلته ليحصل على جائزة نوبل للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1919، فإن الولايات المتحدة لم تنضم إلى العصبة أبدا، فقد كان ذلك مخالفا لإرادة الأغلبية من الجمهوريين في مجلس الشيوخ بقيادة هنري كابوت لودج.

وهكذا شملت عصبة الأمم مجلسا تنفيذيا يضم الدول العظمى فيما عدا الولايات المتحدة، إذ تكونت في البداية فقط من الأعضاء الأربعة الدائمين وهم بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا واليابان، بالإضافة إلى 4 أعضاء غير دائمين انتخبوا من قبل الجمعية لمدة 3 سنوات، وهم بلجيكا والبرازيل واليونان وإسبانيا.

وبالإضافة إلى المجلس التنفيذي، شمل هيكل عصبة الأمم أيضا أمانة عامة دائمة ضمت خبراء في مختلف المجالات تحت إشراف الأمين العام، وشملت أقساما عديدة مثل السياسة والمالية والاقتصاد، ولجنة أوضاع الأقليات، ولجنة نزع السلاح، ومنظمة الصحة، والمسائل الاجتماعية (الأفيون والاتجار في النساء والأطفال) والشؤون القانونية وغيرها.

إعلان

وكان لعصبة الأمم جناحان أساسيان هما المحكمة الدائمة للعدل الدولي (مهمتها إصدار الأحكام في حالات النزاع الدولي) ومنظمة العمل الدولية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هنالك العديد من الوكالات واللجان الثانوية، إذ تم تخصيص ميزانية لكل منها، علما بأن العصبة كانت مدعومة ماليا من الدول الأعضاء فيها.

ومن الجدير بالذكر أن تكوين عصبة الأمم تغير عدة مرات على مدار سنوات، فزاد عدد الأعضاء غير الدائمين لأول مرة إلى 6 في سبتمبر/أيلول 1922 وإلى 9 في سبتمبر/أيلول 1926، وانضمت ألمانيا في عام 1926 لتصبح العضو الخامس الدائم في المجلس.

لكن ألمانيا واليابان غادرتا لاحقا من العصبة، ثم أصبح الاتحاد السوفياتي عضوا وطرد من العصبة بعد غزوه فنلندا.

إعلان
رئيس أميركا ثيودور روزفلت (يمين) طرح في عام 1910 فكرة "عصبة الأمم" عند تسلمه جائزة نوبل للسلام (أسوشيتد برس)

الإنجازات

على الرغم من أن عصبة الأمم لم تستطع تحقيق هدفها الرئيسي ألا وهو إحلال السلام العالمي، فإنها استطاعت تحقيق بعض الإنجازات العامة من خلال مؤسساتها ولجانها المختلفة.

أحد هذه الإنجازات اللجنة الدولية للتعاون الفكري، والتي كانت مقدمة لليونسكو، ولجنة اللاجئين ومنظمة الصحة التي أصبحت فيما بعد منظمة الصحة العالمية، ومنظمة العمل الدولية وغيرها.

ونجحت منظمة العمل الدولية في تقييد إضافة الرصاص إلى الطلاء وأقنعت العديد من البلدان باعتماد يوم عمل من 8 ساعات يوميا و48 ساعة في الأسبوع.

إعلان

كما قامت بحملة لإنهاء عمالة الأطفال، وزيادة حقوق المرأة في مكان العمل، وتحميل أصحاب السفن المسؤولية عن الحوادث التي يتعرض لها البحارة.

كذلك سعت لجنة العبودية إلى القضاء على الرق وتجارة الرقيق في جميع أنحاء العالم، وحاربت الدعارة القسرية.

وحصلت العصبة على التزام من إثيوبيا بإنهاء العبودية وكان ذلك شرطا للعضوية في عام 1923، وعملت مع ليبيريا لإلغاء العمل القسري والعبودية بين القبائل.

إعلان

كما نجحت العصبة في خفض معدل وفيات العمال الذين يبنون سكة حديد تنجانيقا الألمانية من 55% إلى 4%.

وأُسست مفوضية اللاجئين في 27 يونيو/حزيران 1921 لرعاية مصالح اللاجئين، ومن ذلك الإشراف على إعادتهم إلى الوطن أو إعادة توطينهم عند الضرورة.

وفي نهاية الحرب العالمية الأولى كان هناك بين مليونين و3 ملايين أسير حرب سابق من دول مختلفة منتشرين في جميع أنحاء روسيا، وفي غضون عامين من تأسيس لجنة مفوضية اللاجئين استطاعت مساعدة 425 ألفا منهم على العودة إلى ديارهم.

إعلان

الأمم المتحدة

اندلاع الحرب العالمية الثانية كان دليلا واضحا على فشل عصبة الأمم في هدفها الأساسي ألا وهو إحلال السلام ومنع الحروب العالمية.

ويعود فشل عصبة الأمم إلى عدد من الأسباب أبرزها عدم انضمام الولايات المتحدة إليها، وتنفيذها لأجندات تابعة للدول العظمى المكونة لها على حساب السلام العالمي، فقد كان إنشاء هذه المنظمة جزءا من التسوية السلمية لإنهاء الحرب العالمية الأولى حيث بات ينظر إليها على أنها "عصبة المنتصرين".

وذلك فضلا عن فشل برنامج نزع السلاح، وصعوبة اتخاذ القرارات داخل العصبة، التي تطلبت موافقة بالإجماع من الأعضاء لتنفيذها.

أيضا لم تتماش فكرة "الأمن الجماعي" التي تبنّتها عصبة الأمم مع العلاقات الدولية الفردية بين الدول الأعضاء، فعلى سبيل المثال تتطلب فكرة "الأمن الجماعي" أن تتخذ بعض الدول إجراءات ضد دول أخرى صديقة لها لحماية مصالح دول أخرى لا ترتبط معها بأي صلة، الأمر الذي لم يكن قابلا للتطبيق.

وأخيرا، لم تمتلك عصبة الأمم قوة مسلحة خاصة بها بل اعتمدت على القوى العظمى لتنفيذ قراراتها أو تطبيق العقوبات على الدول المخالفة.

ونتيجة كل هذه العوامل، أثبتت العصبة في النهاية أنها غير قادرة على كبح جماح الحرب العالمية الثانية عام 1939.

وبسبب هذا الفشل، جاء الإعلان حلّ عصبة الأمم في 20 أبريل/نيسان 1946 بعد مرور 26 عاما على تأسيسها.

حلّت الهيئة المعروفة اليوم باسم "الأمم المتحدة" مكان عصبة الأمم، وورثت عنها العديد من الوكالات والمؤسسات ومن ذلك منظمة العمل الدولية.

وأصبح الحلفاء الرئيسون في الحرب العالمية الثانية أعضاء دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1946، وباتت قرارات مجلس الأمن ملزمة لجميع أعضاء الأمم المتحدة، وبعكس ما كان سائدا في عصبة الأمم لم يعد الإجماع مطلوبا لتنفيذ القرارات.

وبات الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن (المملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي وفرنسا والولايات المتحدة وجمهورية الصين) فقط من يمكنهم استخدام حق النقض (الفيتو) لحماية مصالحهم الحيوية.

المصدر : مواقع إلكترونية

إعلان