مهنة الكتابة

أمير تاج السر*

في أحد المطارات -وفي صالة الوصول تحديدا- التقيت بشخص من الذين يحملون فضولا ما تجاه الأشخاص الذين يلتقونهم كما يبدو، لأنه اقترب مني حالما لمحني.

عرّف عن نفسه بكلمات متأنية، وسألني عن سبب زيارتي تلك الدولة، فقلت له إنني أشارك في ندوة بمعرض الكتاب، وسألني عما يؤهلني للمشاركة في مثل تلك الندوة، فقلت إنني كاتب.

إعلان

كانت دهشة الرجل كبيرة، ولعلها ليست كذلك لكنني خلتها بحجم أكبر، رأيته يتأملني بتأن ثم يقول: كاتب؟ كيف تكسب رزقك من هذه الوظيفة؟ وهل هناك فعلا وظيفة تحمل هذا الاسم ويمكن لشاغلها أن يتزوج وينجب ويسافر ويعيش مثل الناس؟

وقبل أن أبين له وجهة نظري في تلك المسألة وأنها ليست وظيفتي الرسمية كان الرجل قد ذهب، ربما ليقتحم مسافرا آخر لا يهيج مشاعره بوظيفة مسكينة كهذه.

المبدع والوظيفة
ما أوردته هنا لم يحدث معي مرة واحدة ولا مرتين ولكن مرات عدة ما دمت أسافر وأعود وأختلط بمن أعرفهم ومن لا أعرفهم، وأردت بإيراده التدليل على أن الكاتب العربي أو المبدع العربي عموما لن يمنح وظيفة تحمل مسمى إبداعه وتقبل في المجتمع ككيان مستقل وحيلة لجلب الرزق، فما زال هناك اعتقاد بأن الوظائف هي تلك التي تتم دراسة تخصصاتها في الجامعات والمعاهد العليا، وحتى هذه ليست كلها تحظى باعتراف وظيفي.

إعلان
الكاتب العربي أو المبدع العربي عموما لن يمنح وظيفة تحمل مسمى إبداعه وتقبل في المجتمع ككيان مستقل وحيلة لجلب الرزق، فما زال هناك اعتقاد بأن الوظائف هي تلك التي تتم دراسة تخصصاتها في الجامعات والمعاهد العليا

فالرسام الذي درس الفن كتخصص مثلا لن يعمل رساما فقط، ولكن عليه اختيار طريق آخر ليسلكه بجانب الرسم، والنحات لا يمكن أن يقدم نفسه نحاتا للناس، وتلك مهنة قاسية في الحقيقة وتتطلب جهدا كبيرا، ويأتي دور الشاعر بالطبع كمبدع يتيم جدا، إذ لا يمكنه الحياة شاعرا على الإطلاق حتى لو كتب الدرر ما لم يقترب من سلطة تمنحه الحظ والرزق.

بالطبع ليست تلك الأمثلة مطلقة، فهناك رسامون عاشوا بترف من جهد الرسم وبلا أي وظيفة أخرى، ونحاتون أصبحوا أعلاما، فقط أتحدث عن الأغلبية العظمى من أهل الإبداع الذين يطرقون الأبواب بإبداعهم وقلما يستجيب لهم أحد.

أذكر حين كنت طالبا في الثانوية بمدينة بورتسودان نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وكنت أكتب الشعر الغنائي أني التقيت بشعراء عديدين يكتبون قصائد الغناء وغيرها، وكان فيهم شاعر عظيم كنا نطرب كثيرا من الصور الجديدة المبتكرة التي تمتلئ بها قصائده.

كان موظفا في الميناء براتب جيد، وكان شديد الاعتزاز بكونه شاعرا، وقرر في لحظة نشوة كبيرة بنجاح أغنيات قدمها لمطربين عديدين ونال عليها أجرا أن يترك وظيفته الروتينية ويتفرغ لكتابة الأغنيات.

كنت أستمع لأحلامه الكبيرة التي حملت قصائده وركضت بها، ليس إلى مطربي البلاد فقط، ولكن إلى مطربين عرب كبار تخيل الشاعر أنهم غنوها بالفعل.

إعلان

لقد ترك الشاعر وظيفته فعلا، وجلس في بيته يكتب الأغنيات، لكن للأسف ظل هو نفسه الشاعر المحلي الذي لم يتعد كسبه تلك الجنيهات القليلة التي لن يستطيع العيش بها، وكان أن حاول العودة لوظيفته فلم يقبل، واضطر إلى ترك المدينة والسفر بحثا عن الرزق في مكان آخر.

كتّاب العرب والغرب
وحين كنت في الجامعة بمصر كان بعض الكتاب المعروفين والمغمورين الذين عرفتهم هناك -على حد سواء- يفضلون ثرثرة المقاهي وارتداء ثياب الأنا الكبرى المتضخمة على الانتظام في وظائف حكومية أو خاصة تمنحهم شيئا من متطلبات الحياة.

الإبداع في عالمنا العربي لا يمكنه أن يتحول إلى لقيمات من الخبز ولا سيجارة للتدخين، ولن ينقلب تذكرة للمواصلات يستغلها المبدع في تنقله بمدينة صعبة مثل القاهرة وغيرها من المدن المشابهة في مبدعيها وعمرانها وقسوتها أيضا
إعلان

كانوا في الواقع يمقتون التوقيع على دفاتر الحضور والانصراف، ودائما ما أسمع أحدهم يصرح بأنه مبدع كبير ولن يوقع أمام موظف بلا أفق أبدا.

لكن بالطبع لم يكن الإبداع الكبير هذا لقيمات من الخبز ولا سيجارة للتدخين، ولن ينقلب تذكرة للمواصلات يستغلها المبدع في تنقله بمدينة صعبة مثل القاهرة وغيرها من المدن المشابهة في مبدعيها وعمرانها وقسوتها أيضا.

وكان أن نصحني أحد هؤلاء المبدعين المتمركزين في المقاهي بأن أتوقف عن دراستي الجامعية الشاقة وأكتب فقط لأن المجد في الكتابة، ولا يوجد شرف مثل شرف الإبداع، وكانت بالطبع نصيحة مؤلمة لو كنت اتبعتها لانتهت بي إلى حلق الضياع.

في العادة، لا أحب مقارنة أحوال الإبداع عندنا بأحواله في الغرب، لكن قارئا متابعا في ندوة حوارية شاركت فيها سألني: لماذا كتابنا العرب -ومهما كبروا في السن واشتهروا- يظلون يعملون في وظائف بعضها بسيطة جدا، ومن فئة الوظائف العمالية، بينما كتاب مثلهم في فرنسا وبريطانيا مثلا يعملون كتابا فقط؟ لماذا لا يصبح الكتاب العرب كتابا؟

بالطبع هذا سؤال يشبه نصيحة من أشار علي بترك الدراسة، كلاهما جارح، وعلى الرغم من ذلك بينت للسائل مغبة الاعتماد على صحيفة تستكتبك اليوم، وتلغيك في الغد، أو مجلة يحبك رئيس تحريرها فيسعى إليك، ثم يأتي رئيس تحرير آخر لا يفهمك أولا يحبك فيطردك فورا، ورواية لن تعرف أبدا من اشتراها ومن قرأها؟

هذه تجارب معروفة مررت بها ومر بها غيري ممن هم أكبر وأهم مني، لذلك لم يكن غريبا أن يستاء رجل المطار المقتحم من كوني أعمل كاتبا، ويستغرب كيف أعيش من وظيفة كهذه؟
________________ 

* روائي وكاتب سوداني

 

المصدر : الجزيرة

إعلان