تيناروين.. من رحم الكلاشنكوف يولد الإبداع

“الصحراء للجسد منفى، ولكن الصحراء للروح فردوس
الكاتب الليبي ابراهيم الكوني

“في 63 قد ذهب، ولكنه سوف يعود.. تلك الأيام قد ذهبت وتركت آثارها، قتلوا الأسطورة القديمة والطفل لتوه قد وُلد، انقضوا على المراعي وقضوا على الماشية، في عام 63 قد ذهب ولكنه سوف يعود..” بهذه الكلمات ينعي رجال ملثمون نكبة عشيرتهم المطالبة بالاستقلال من مالي سنة 1963، وينتحب قائدهم إبراهيم أغ الحبيب والده الذي أعدمته السلطات في نفس السنة.

ملامحهم مختلطة بالحزن والغضب، ملثمون كجنود يستعدون لغارة في الصحراء، سلاحهم غيتارة عوض كلاشينكوف ويلقون الموسيقى عوض الرصاص.. فمن تكون مجموعة تيناريون وما السر الذي يحاولون إخفائه باللثام على وجوههم؟
 

إعلان
تيناريون سفراء لأمة بلا وطن:

أهلا بكم في الصحراء، بهذه العبارة اعتادت فرقة تيناريون الموسيقية أن تبدأ جولاتها الموسيقية العالمية، يقول المفكر الفرنسي ألبير كامو: “في وسط الخريف أدركت أن بداخلي صيفا لا ينضب”، والصحراء القابعة في فؤاد تيناروين لا يغلبها صقيع العالم الغربي أبدا، يحمل سفراء موسيقى الأزواد صحرائهم أينما حلوا وارتحلوا، يغنون عن الأرض والهوية والإنسان، ويرفضون الانتساب لجنسية بلد معين، فهم يعتبرون أنفسهم سفراء الرمال وصوت الطوارق في ليبيا والجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر.

إعلان
يرى الطوارق أنفسهم أسطورة وليسوا مجرد منظومة، فالصحراء عندهم مشتل للأساطير التي بها يستمرون، كأسطورة مدينة “واو” و أسطورة جلد الثور وأسطورة الاه امناي التي ارتبطت بالأنثى

اسمهم يعني الصحاري باللغة المحلية لغة “تماشك”، ارتبط اسمهم ارتباطا قويا بثورة الطوارق ومقاومتهم، فقد اُجبروا في منتصف السبعينات على الرحيل عن مالي وفي مخيمات اللاجئين بجنوب الجزائر اكتشف المؤسسون الأوائل لتيناريون إبراهيم أغ الحبيب وحسن أغ التهامي سحر الغيتارة الإلكترونية لأول مرة قبل أن يلبوا نداء المقاومة في مخيمات التدريب بليبيا في منتصف الثمانينات ويلتقوا هناك بعبد الله الحسينين لتبدأ النواة الأولى لتيناريون بالتشكل.

طردنا مغولا من البلاد وربينا مغولا في الفؤاد:

من الكفاح المسلح إلى موسيقى الكفاح، بهذه العبارة التي قالها إبراهيم أغ الحبيب في لقاء صحفي يمكن تلخيص مسار تيناريون كله، فبعد حصول مالي سنة 1960 على استقلالها من فرنسا تعرض الطوارق للاضطهاد من طرف حكومة موديبوكيتا، لقد ترك الاستعمار الفرنسي الطوارق أمة دون وطن ووزعت أراضيهم على الدول الإفريقية، فبدأت تظهر ملامح استعمار جديد داخلي يهدد الطوارق في أراضيهم، لقد التجئت السلطات أنذاك للنهب والسرقة وتدمير الخيام لترهيب الطوارق، فاندلعت ثورة الطوارق سنة 1962 التي أخمدتها السلطات المالية بمساعدات خارجية.

في تلك الأونة كان إبراهيم أغ الحبيب طفلا ذو ثلاث سنوات وجد نفسه دون أب وهاربا رفقة عائلته وأفراد قبيلته لتمنراست جنوب الجزائر ومنذ ذلك الحين وضع إبراهيم قضية استقلال الطوارق نصب عينيه. في سنة 1981 انتقل إبراهيم رفقة شباب عشيرته لليبيا التي عرض فيها القذافي على الطوارق المتمردين التسليح والتدريب، هناك التقى إبراهيم وحسن بعبد الله سنة 1986 وتشكلت فرقة “كيل تيناريون” التي تعني فتيان الصحراء، ويحكى أنهم قدموا عرضا حضره العقيد القذافي.

إعلان

في سنة 1990 شاركت الفرقة في النزاع المسلح الذي انتهى بتوقيع اتفاقية سلام بين الطوارق ومالي والنيجر وانسحبت تيناريون من ساحة الحرب لتعتلي خشبات العرض، ورغم مرور سنين عن انتهاء الصراع وطرقهم لأبواب العالمية وحصولهم على جائزة الغرامي سنة 2011 إلا أن نبرة الحزن لا تزال قائمة في موسيقى تيناريون.

إعلان

الأنثى المقدسة عند الطوارق وتيناريون:

يرى الطوارق أنفسهم أسطورة وليسوا مجرد منظومة، فالصحراء عندهم مشتل للأساطير التي بها يستمرون، كأسطورة مدينة “واو” و أسطورة جلد الثور وأسطورة الاه امناي التي ارتبطت بالأنثى المنقذة، هذه الأسطورة تكشف مدى التأليه الذي أعطاه الطوارق للأنثى وألغته الديانات التوحيدية رغم أنهم لا يزالون يستعملون لفظ الألوهية لغويا لوصف الأنثى، وحظيت المرأة عندهم بقداسة جعلت قوانينهم تفني وتطرد للأبد من يسيئ للمرأة.

للطوارق ثلاثة رموز يقدسونها ويحفظونها بشدة: “تينري، ترها، إيمان” وتعني “الصحراء، الحب، الحياة”، ولأنها منشأ الحب تلعب المرأة دورا جوهريا فالطوارق مجتمع أمومي، المرأة تختار زوجها وترفض تعدد الزوجات. والأسطورة تقول أن الطوارق تلثموا تكريما لنضال المرأة في معاركها التاريخية كالمحاربة لإلة فاطمة نسومر أبرز أوجه المقاومة الجزائرية، هذا اللثام لا زال طاغيا على لباس فرقة تيناريون وكذلك وجود امرأة تغني معهم تضيف لموسيقاهم سحرا أنثويا غارقا بالميثلوجيا الطوارقية، إنها مينا واليت عمر عضو فرقة تيناريون.

قد تعني الصحراء للبعض القفار والتيه، لكنها لتيناريون تعني الهوية والحرية والإلهام وأهم شيء انعدام القيود، تقريبا في كل التعليقات المصاحبة لأغانيهم على اليوتيوب يكون الصراع حاميا بين المعجبين عن أحقيتهم في تيناريون، البعض يقول من مالي والبعض يقول الجزائر والبعض الأخر يقول السينغال.. يتباهى صحبان الأوطان بالانتماء للأوطان، ويتباهى صاحب الصحراء بالانتماء للعدم، تيناريون تنتمي للطوارق أينما كانوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان