أم كلثوم.. عبقرية فطرية أم صنعها الإعلام؟

إعلان

لطالما اُعتبِرت السيدة أم كلثوم كوكبًا للشرق وسيدة للغناء العربي لعقود طويلة، منذ بداياتها في منتصف العشرينات إلى منتصف السبعينات من القرن الماضي، كانت متملكةً لأعلى الهرم الغنائي في الشرق. لكن هناك تساؤل يُطرَح في أحيان عدة، هل كانت أم كلثوم موهبة فريدة صاغت نفسها أم أن الإعلام كان له الدور الأكبر في صناعة أم كلثوم وانتشارها كونها مقربة من نظامي الحكم الملكي قبل ثورة يوليو/تمّوز والجمهوري بعدها في مصر آنذاك؟ نعرف جميعًا أنه لا وجود لشخصيّة صنعت ما صنعت أم كلثوم إلّا وكانت محط جدل بين الناس، فلم تكن أم كلثوم إلّا محطة من المحطات التي تبادلت فيها الشكوك والأسئلة. 
 

من قراءة لسيرة أم كلثوم في مراحل حياتها الأولى، في قريتها طماي الزهايرة في السنبيلاوين، وانتقالها إلى القاهرة، نعرف الكثير من تفاصيل شخصيّة أم كلثوم الأولى التي لم يشوبها تصنّع الإعلام ولا غموضه عن الجماهير، فقد كانت شخصيّة قريبة من البراءة وبساطة الريف. فلم تكن مطربة يملأ طربها الغنج، وما أكثرهن في تلك الفترة، وصبّت جل تركيزها على الطرب وحده، وهو من أتى بها إلى القاهرة. 
   

إعلان
علاقات أم كلثوم بالسلطة لم تكن إلّا علاقة وديّة، بين مقدمة خدمة للأمّة وبين سلطة بلد من الأمّة، وتقديرًا لها بحكم مكانتها في قلوب كل محبيها

هذه السمات التي نقلتها أم كلثوم معها كانت نتيجة نشأتها المحافظة جدًا على التقاليد، فقد كانت مغنيّة للموشحات الدينية تتنقل مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي وأخيها خالد من قرية إلى أخرى لتنشد معها هذه الموشحات في مناسبات مختلفة. فلم تكن أم كلثوم قد اعتادت على حياة الملاهي الليلية في المدن كباقي مطربات ذلك الزمن، وعندما غنّت في بدايتها في أحد الملاهي في القاهرة وجدت صعوبة التأقلم مع ذلك الجو الغريب عنها.

  
دخلت أم كلثوم في النصف الثاني من العشرينات في القرن العشرين إلى عالم الأسطوانات، فسجلّت أولى أغانيها سنة 1926. وتعاملت بداية من تلك الفترة مع كبار الشعراء والملحنين، مثل الشيخ يوسف القاضي، والشيخ أبو العلا محمد، والقصبجي، وزكريا أحمد، والدكتور محمود صبري النجريدي، وفي سنة 1930 لحّن لها داود حسني أغنية (شرف حبيب القلب)، وتعاملت مع غيرهم من أهم الشعراء والملحنين في مصر والعالم العربي، حتّى ذكرت بعض المصادر أن قصيدة (سلوا كؤوس الطلا) للشاعر الكبير أحمد شوقي كانت قد كُتبت عنها، وقد غنتها أم كلثوم فيما بعد.
   
هذا التغيّر السريع الذي طرأ على أم كلثوم منذ بدايتها، ودخولها مكتسحة عالم الطرب بكل هذه القوة مع وجود منافسين كانوا قد تملكوا سلطنة الطرب آنذاك مثل منيرة المهدية أو فتحية أحمد وغيرهن من المطربات الكبيرات، كل هذا كان دليلًا على فطرة موهبتها وأصالة كلثومية شخصيتها التي صنعتها بنفسها، ولم تكتب عنها الصحف ولم تكرّم بنشيان الكمال من الطبقة الممتازة من الملك فاروق نفسه بعد 18 سنة من ظهورها الأوّل إلّا بعد إثباتها لكل ما تملكه من موهبة صنعتها وطورتها بصحبة رفاق فنّها.

   

  

لهذا نستطيع أن نقول أن الإعلام كان دخيلًا مغيرًا لأم كلثوم، وليس صانعًا لها. فقد كانت ضجة الإعلام تصحب آلاف الجماهير المتزايدة في اكتشاف أم كلثوم وحبها، وخصوصًا من خارج مصر، فقد كانت إذاعة صوت العرب التي تنقل معظم حفلاتها تصل إلى مسامع كل عربي في بلده بفضل الإعلام، فهذا غيّر كثيرًا من ماهيّة وعدد الجماهير المستمعة، وبالتالي بأم كلثوم نفسها.
   
علاقات أم كلثوم بالسلطة لم تكن إلّا علاقة وديّة، بين مقدمة خدمة للأمّة وبين سلطة بلد من الأمّة، وتقديرًا لها بحكم مكانتها في قلوب كل محبيها، وهذا ما يخص الفترة الملكيّة. أما بعد الثورة فكان الوضع مختلفًا قليلًا، فنستطيح القول بأنها لم تكن علاقة سلطة بأكملها، فقد كانت أبسط من ذلك، فكانت تربط أم كلثوم بالرئيس جمال عبدالناصر صداقة قويّة حتى من قبل ثورة يوليو/تمّوز التي أطاحت بنظام الحكم الملكي في مصر، وهذه الصداقة عززتها أكثر مكانتهما السياسية والفنية بعد الثورة.
   
إذًا قد تكون الإجابة الأنسب عن هذا السؤال هو أن السيدة أم كلثوم كانت موهبة عبقرية فطرية غيّر كثيرًا منها الإعلام إيجابيًا.

إعلان

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان