لا تدعونا على الطريق

كم هي عجيبةٌ البركة! تزيدُ بالقسمةِ ضاربةً بقوانين الرياضيات عُرض الحائط، بل وتتحداها بالزيادةِ كلما ازدادت قيمةُ المقام. بها يستحيلُ الواحدُ ألفًا والألفُ واحدًا، وُضعت في الأرضِ لتكتنفَ المادةَ وتُضيف لها قدرًا فوق قدرها، هي عنوان الألفة بين الخلائق، ومنها تخرجُ المودةُ التي صارَ الناسُ بها أُناسًا مكرمين.
إعلان
 

للسعادةِ بركتُها وللهم بركتُه، هذه بازديادها، وذلك بنقصانه، ولا تتأتى أيٌ من البركتين إلا بالقسمة. حين تنشرُ بين الناس بسمتَك تجدُ أنها تزيدُ شيئًا فشيئًا، تتنقلُ وجهًا لوجه وقلبًا لقلب، وتدومُ بمقدار دوامِ العدوى السعيدة التي نشرتَها في الأجواء، يرقص قلبك أكثرَ فأكثر كلما ازداد المشاركين لفرحته، كلما رأى أن ثمةَ من بسطَ لك وجهَه ليرد لوجهك بسطتَه وإن لم يجد في قلبه سببًا مقنعًا لذلك، ربما يعتصرُ الألمً قلبَه ولكنه أرادَ أن يسرق لحظةً من ذلك الألم ويؤاخي ببسمتِه بسمتَك.

 

إعلان

وكذلك الهمُ يا أخي، بركتُه أن يُقسم، أن يُوزع على قلوبٍ صادقةٍ مُحبة، تأبى عليك إلا أن تنغمسَ معك بهمك، وتحملَ عنك شيئًا منه حتى يخف وطأتَه عن قلبك ولو شيئًا. يعلمون أنْ لو أفردوك له لفاض به قلبُك حتى يغمرَه، ولزاحمَ في أنفاسك الهواءَ حتى يزحمَه.

 

آهٍ عليك يا صديقي إن شردتَ عنهم أو شردوا عنك، سيطاردك خطبًا إثر خطب لا يملُ عنك، تركض وتركض وإذ به لم يفارقك، يلازمك ملازمةَ روحك لبدنك، ولن يدعك إلا إذا ودّعَتْه ورحلَتْ.

 

أيها المباركين لا تدعونا على الطريق، لا تتركونا عابري سبيلٍ في أرضٍ موحشة، لا تدعونا للعقبانِ فريسةً أنهكها الألم وأكل قلبَها اليأس

تلك هي نفسُك يا صديقي، هكذا جُبلت، مؤنِسةٌ تحب رفيقاتها وتألفُ لها، ثرثارةٌ لا تحب الكتمان، تودُ لو أن لها بدلًا عن اللسانِ مائة، ولو أنها أوتيتْ بلاغةَ شاعرٍ مفوهِ خطيب لتَقُصّ على هذا وذاك آلامَها وأفراحها؛ فيستحيلُ الفرحُ عشرًا ويستحيلُ الهم وكأنه لم يكن.

إعلان

 

فانظر في حياتِك أيُ الناس قد بُوركتَ بهم، هؤلاء الذين تقسمُ لهم ويقسمون لك، أولئك الذين تعبسُ وجوهُهم لعبوسِ وجهِك، ويُنيرُ محياهم إن لامستْ البسمةُ شفتاك.

 

إعلان

أولئك الذين وُزعت أنفسُهم في نفسِك، وتفرقت سنواتُ عمرِك في دفاتر أعمارهم، هم روحُك و كنهُك، قلبُك ينبضُ في صدورهم، و ملامحُ وجهك جليةٌ على قسمات وجوههِم..

أنظرهم يا صديقي وأشر عليهم لقلبك، أو لا حاجةَ لذلك، هو بالطبع يعرفهم، يألفهم أكثرَ حتى من الدم الذي يجري إليه.
هم أنت وأنت هم، لن تكمُلَ لك ابتسامةٌ حتى تجريَ على وجوههم قبلَ وجهك، ولن يكفَّ عنك همُك قبل أن يقتسموه عنك.

 

إعلان

أيها المباركين لا تدعونا على الطريق، لا تتركونا عابري سبيلٍ في أرضٍ موحشة، لا تدعونا للعقبانِ فريسةً أنهكها الألم وأكل قلبَها اليأس.

 

الحياةُ مخيفةُ ما لم نجد فيها طيوفَكم تربت على أكتافنا وتمسحُ عن وجوهنا عبراتِ الوجع.
أيُ حياةٍ تتركون لنا إن رحلتم؟!
وأي نفسٍ تبقى بين جنبيّ وقد استقرت فيكم نفسي؟!
أي عملٍ لي على طريقٍ غابت عنه النجوم، وأي وُجهةٍ قد أصل؟!
أيها المباركين لا ترحلوا عنا، فنحن لا نعرفُ السفرَ إلا في رحالكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان