كيف أصبح التشهير أكثر انتشارا من الستر؟

إذا كانت نافذة بيتك مطلة على العراء أو على البحر أو على صحراء قاحلة فهذا لا يعني أنك في مأمن من هتك خصوصيتك، فربما أنت في مرمى عدسة بعيدة تصور دبيب النمل في حجرتك، أو ربما ابنك الصغير وهو يلهو بهاتفك معتقدا أنه يستمتع بلعبة المكعبات، قام بتثبيت برنامج يفتح ميكروفون هاتفك ليسمع العالم صوتك. وربما أيضا وأنت أسير لفضولك تبحث عن صورة قيلت إنها لفلان مع فلانة، يصطادك فضولك وتقع في شباك هواة النقرات (Les cliques) فيخترق هاتفك لتجد صورة بيتك الفوضوي منشورة إلى جانب كل هذه الفوضى الكونية التي لا تبق ولا تذر نزاعة لما تبقى من حياء في هذا الإنسان.

إعلان

ما ينشر على شبكة الأنترنت من مضمون من المفترض فيه أن يكون حميميا أو مغلقا في مجموعة معينة (حفلة عائلية، عرس، رحلة..) أصبح ينتشر كالهشيم في النار بشكل يصعب إيقافه. والملفت في هذا الانتشار السريع أنه كلما كثر النشر كلما ظهرت فيديوهات وصور جديدة أكثر جرأة وأكثر وضوحا وأكثر سفالة ووضاعة، وهو أمر محير فعلا. لأن إمكانية أن تنشر (بضم التاء) حياتك الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي أو أن تكون مادة دسمة للمواقع الإباحية، فهذا يجعلك أكثر احتياطا وخوفا، لكن لا شيء من هذا يحدث، لماذا؟ فهل السبب راجع إلى تزايد تربص المتربصين أم إلى سذاجة الضحايا؟ أم أنها ثقة عمياء في هواتفنا "الغبية"؟

الجواب هو كل هذا، فلقد أصبح المجتمع ميالا للفضح أكثر منه إلى الستر، وربما سيتفاجأ البعض لو قلت أن كثيرا من قيم الستر في حياتنا اندثرت، سواء فيما يتعلق باللباس والحديث والأكل والتسوق واستعمال وسائل النقل وفي البناء والعمران والحفلات.. إن كثيرا من الأشياء التي تعتبر في الأصل من الخصوصيات التي لا تذكر إلا في إطارها أصبحت الآن مشاعة بدعوى الانفتاح والتحولات التي يعرفها المناخ العام في مجتمعاتنا. وربما لو سألنا ما معنى أن تشارك سيدة صاحب متجر -لا تعرفه- حياتها ومعاناتها مع أبناءها وبناتها في الوقت الذي يفترض فيه أنه بائع وليس أخصائي اجتماعي؟ وما معنى أن يقص علينا سائق التاكسجي حياته الخاصة وكأننا خبراء اجتماعيون.. وما معنى أن يتحدث الطلاب والطالبات عن الملابس الداخلية فيما بينهم في وقت لكل جنس خصوصيته وملابسه.. الجواب حتما غير موجود هذا أصلا لو تجرأنا على السؤال.

نحن أمام ظاهرة غريبة، كلما كثر النشر وكثر الحديث عنه في الإعلام وشبكات التواصل إلا تعود الناس على ذلك واستساغوه وأغرموا به وتنافسوا فقط في تقييمه ونشره مرة أخرى
إعلان

إن الذي لا يلاحظ هذه التحولات المجتمعية على مستوى القيم لن يفهم لماذا أصبحت قيمتي التشهير والفضح هما الأكثر انتشارا أمام قيم الستر.. وعندما تجد هذه القيم الغريبة عن مجتمعاتنا بيئة هشة وانتشارا فوضويا لوسائل التواصل والتصوير، وعندما تسقط هذه الصور والفيديوهات في يد من يتبنى قيم الفضح بدل الستر تكون النتيجة هذا الهتك الصارخ للخصوصية الفردية على مواقع التواصل الاجتماعي بدون رقيب ولا حسيب.

أمام هذه الصورة المعقدة للحالة التي وضعتنا فيها التكنولوجيا وتراجع قيم الستر يجد الإنسان نفسه بين الممانعة أو التطبيع، تجد الفتاة نفسها محتارة بين عدم حضور عرس ابنة عمتها خوفا من نقل صورها إلى الأنترنت أو التسليم بالأمر الواقع وتقبل عواقبه بأخف الأضرار.

فعلا هذا ما يحدث، التسليم بالأمر الواقع. فقد خلقنا بيئة نستسيغ فيها كل شيء عملا بالقاعدة "إذا عمت هانت"، فنشر صورة فتاة ترقص في عرس أخف من نشر صورتها وهي ترقص في غرفة، ونشر صورتها وهي ترقص بلباس محتشم أخف من نشر صورتها وهي ترقص بلباس فاضح وهكذا.. فبدل الحفاظ على الخصوصية الفردية نقوم بتمييعها بنشرها وتبرير النشر حتى يصبح سؤال الخصوصية الفردية منعدما تماما. وبدل أن نجعل من رفوف خزاناتنا مكانا نحتفظ فيه بخصوصيتنا نجعل من مواقع الصور مكانا لذلك حتى إذا أراد فتى تذكر مغامراته "الشبابية" ذهب ليبحث عنها في تلك المواقع ليجد نفسه الزائر الأول بعد الألف للفيديو!

نحن أمام ظاهرة غريبة، كلما كثر النشر وكثر الحديث عنه في الإعلام وشبكات التواصل إلا تعود الناس على ذلك واستساغوه وأغرموا به وتنافسوا فقط في تقييمه ونشره مرة أخرى. وكلما ظهر مضمون مشين شجبه الناس ثم تقادم أمام مضمون أفضح منه، ليتعود الناس على القديم في انتظار ما جادت به عدسات المتربصين أو هفوات الغافلين. كان من المفترض أن تساهم هذه التكنولوجيا في خوف الناس على حياتهم الخاصة لكن العكس هو الذي حدث، فقد انتهكت خصوصياتنا وبدل أن تردعنا وتجعلنا أكثر حذرا جعلتنا نمارس تطبيعا سلسا مع كل هذه الفضائح وتجعلنا نقبل بها بشكل عادي جدا، ولربما يأتي اليوم الذي ننتقد فيها لأننا سميناها بالفضائح.

نحتاج لتوعية شاملة بخطورة توثيق بعض الأمور الخاصة، ولابد من تبسيط أمور التكنولوجيا للناس خاصة فيما يتعلق بإمكانية اختراق الهواتف أو إمكانية استعادة محتوى ذاكرة الهاتف حتى وإن تم حذفها، ولا بد من تشجيع الناس لتقديم الشكايات ضد من ينتهك خصوصياتنا والأهم من كل هذا سن قوانين صارمة في هذا المجال وقطع الطريق أمام النفوس المريضة في انتظار عودة قيم الستر والحشمة والوقار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان