منهج النبي في التربية والمجتمع

إعلان

مما لا شك به ولا ريب بأن من أهم مراحل التربية هي مرحلة الطفولة، لأنها مرحلة خصبة لزراعة الأفكار وغرس القيم، فعندما يُولَد الطفلُ يُولَد على الفطرة السليمة مهيَّئاً لأن يتلقى كافة الأفكار الغث منها والسمين، وتكون الفرصة متاحةً لكل من يرغب بأن يملأ صحيفة هذا الإنسانِ البريءِ الصافي من كل شائبة ودنس، ويكون الطفل في هذه المرحلة المهمة الخطيرة على مفترق أهم طريقين في هذه الحياة، وهما طريقا الخير والشر ولكل طريقٍ أهلُه ودعاتُه، والصراع بينهما قديم بقدم هذا العالم فهما على طرفي نقيض دناءةً ورفعةً جنةً وناراً، وهنا يأتي دور الأهل بتوجيه الطفل إلى أحد الطريقين.

لقد بيَّن الإسلام هذه الحقيقة ونبَّه إلى خطورة هذه المرحلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة فأبواه يهودانِه أو ينصرانِه أو يمجسانِه" ولم يُذكر الإسلام في هذا المقام لأن الإسلام هو دين الفطرة، فالطفل في هذه المرحلة كوردة جميلة غرسها صانعها في بستان كبير على جوانبه القاطفون، الذين ينتظرون اللون الجميل والرائحة الذكية العبقة التي تشرئِبُّ لها الأعناق وتَشَخصُ لها الأبصار وتهواها القلوب فسرعان ما يتسابق إليها العاشقون، وهنا يأتي دور الصانع والمالك فإما أن يعظِّمَها ويهديَها لمن يستحقها ويعطيها حقها فتزداد عنده جمالاً وعبقاً، أو يهينَها ويُمَلِّكَها لمن يبخسُها حقها ويحوِّلُها إلى حطيم تذروه الرياح، ولا يبقى منها سوى الأشواك المؤذية التي تتعطش إلى لذع الأيدي التي تمتد إليها بمجرد اللمس.

بعد هذه المقدمة التي وضعتها بين أيديكم كمدخلٍ للحديث عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأطفال، دعونا نتعرف على هذا المنهج المحمدي العظيم الذي يجهله الكثير من المسلمين، فذهبوا إلى مناهجَ غريبةٍ عجيبةٍ يبحثون بها عن تربية صالحة لجيل هذه الأمة، ومن العجب العجاب أن يلجأ المسلمون إلى برامجَ تربويةٍ غربيةٍ وشرقيةٍ يكاد سمها يَبين للأعمش الذي لا يبصر ولا يرى، ولا يبحثون عن نهج نبيهم الأعظم الذي استطاع أن ينشئ جيلاً هزَّ أركان الأرض الأربعة واعترف له بذلك أعداؤه قبل أتباعه، بل غاص العدو في تفاصيل نهجه ليرى كيف استطاع أن يبنيَ هذه الأمةَ العظيمةَ التي سادتِ الأممَ لقرون طويلة، وستبقى ظاهرةً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إعلان
علمنا الرسول قاعدةً عريضةً للصبر على خطأ الأطفال عندما لا يتقبلون ما يُؤمرون به، فمن الصحيح هنا أن نصبر عليهم وندعوَ لهم لا أن نهجرهم وندعوَ عليهم
 

لقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربية الأطفال وكان منهجه واضحاً جلياً لكل من أراد أن يراه ويبصره، ولعل ما سأقوله الآن يستغرب منه الكثير لكن والله لا أقول سوى الحق المستند على أقوى الأدلة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتم في أمر الطفل وهو في عالم الذر إلى عالم الأصلاب إلى عالم الأرحام إلى بزوغ شمس هذه الحياة، وهناك العديد من الأحاديث وقصص السيرة النبوية التي تُدلِّل على صدق ما أقول.

إليكم هذه النفحةَ من نفحات السيرة النبوية المطهرة تعزز صدق القول الذي قلت آنفاً، عندما هاجر رسول الله إلى الطائف واستقبله أهلها بالرفض والإنكار وحرَّضوا عليه الأطفال ليرموه بالحجارة ففعلوا إلى أن أدموا قدميه الشريفتين، عُرِضَ عليه جبريل وقال له: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداه ملك الجبال وقال له: يا محمد إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال الحبيب الرحيم بأمته وأعدائه: بل أرجوا الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.

 

إذا تأملنا في هذه الحادثة نجد بأن النبي دعا للأطفال وهم في عالم الذر وعالم الأصلاب، ورجى ربَه أن يخرجهم موحدين من أهل الجنة لا مشركين من أهل الجحيم، وإذا نظرنا من زاوية أخرى نرى رحمته في أهل الطائف كبارهم وصغارهم، فلم يرضَ أن يكون سبباً لهلاكهم على يد ملك الجبال وهم على هذه الحال من الكفر؛ علماً بأنهم آذوه وكذبوه، ونستطيع أن نضع هذا التصرف الرحيم من قبل رسول الله صلى الله عليه سلم قاعدةً عريضةً للصبر على خطأ الأطفال عندما لا يتقبلون ما يُؤمرون به، فمن الصحيح هنا أن نصبر عليهم وندعوَ لهم لا أن نهجرهم وندعوَ عليهم، وهذا هو النهج النبوي الحكيم الذي يأتي بأطيب الثمار وأعظم النتائج فهنيئاً لأمة عرفت فطبقت.

لعل المقام لا يتسع لأن أسرد كافة المراحل النبوية في التربية فاكتفيت بذكر هذه المرحلة المتقدمة المبكرة من الاهتمام في تربية الأطفال، وهي مرحلة الدعاء لهم قبل قدومهم وسأكمل بقية المراحل ضمن هذه السلسلة المباركة إن شاء الله، التي أسميتها سلسلة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والمجتمع.

إعلان

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان