هل للدولة دين؟
من البداية في الواقع، كانت الدولة أو النظام السياسي بشكل أدق هو من يحدد عقيدة المجتمع، وقد يقترب حتى من تسطير أدق تفاصيل الأشكال التعبدية والرموز الأساسية لذلك الدين، فالأغلبية في أي مجتمع تتميز بقابليتها للانقياد، وليس صدفة في التاريخ أن لحظات التحول الديني تناسبت دوما مع لحظات الضعف والانهيار السياسي، فتنقاد الأغلبية إلى القوة الصاعدة كلما آنست وهنا وتضعضعا في القوة القديمة، فتصير بذلك مسألة القناعة والإيمان ثانوية تقريبا إزاء ما يفرضه الواقع من آليات الصراع والتدافع.
لم يكن انتشار العلمانية، إلا كعقيدة فرضها منطق القوة السياسية، فالعلمانية كانت عقيدة السلطة الحاكمة المتغلبة، ولعله من الواجب التنويه إلى أن شعار الثورة الفرنسية، حرية مساواة أخوة، إنما تم فرضه بحد المقصلة. |
فقاعدة التاريخ بالنسبة للأديان، أنها تبدأ أقلية مضطهدة، ثم تتشكل كقوة ناشئة، تنتقل بعدها إلى المواجهة المكشوفة مع السلطة السياسية، وحين تتغلب عليها، تزيحها وتزيح معها الديانة السابقة، مثلما كان الحال بين الوثنية والإسلام، وبين الكاثوليكية والبروتسانية في ألمانيا وإنجلترا، أو في سيناريو آخر؛ تندمج معها، وتتحالف المرحلتان كما حدث مع الوثنية وبين المسيحية في روما.
ولا يشذ التاريخ الإسلامي عن هذه القاعدة في أغلب فتراته، فقد كانت الدعوة الدينية، أساس جل الدول والمماليك، على امتداد الرقعة الجغرافية والتاريخية العربية، وخارطة المذاهب اليوم، تشير بوضوح إلى الممالك القديمة وعقائدها ونهايات الصراع المحتدم فيما بينها، فالحنبلية في السعودية مثلا تتبع الوهابية حليفة آل سعود في قيام دولتهم، والشيعة الإمامية في إيران تتبع مذهب وعقيدة الأسرة الصفوية ومؤسسها إسماعيل الأول، كما نجد مثلا أن الفضل في استتباب المغرب للمذهب المالكي ذو المظهر الصوفي، يعود للفترة المرينية التي حكمت المنطقة حوالي القرنين من الزمن إلى غاية 1465 م.
في المقابل لم يكن انتشار العلمانية، إلا كعقيدة فرضها منطق القوة السياسية نفسه، فالعلمانية كانت أولا عقيدة السلطة الحاكمة المتغلبة في فرنسا وألمانيا وأمريكا، ولعله من الواجب هنا التنويه إلى أن شعار الثورة الفرنسية، حرية مساواة أخوة، إنما تم فرضه بحد المقصلة الشهيرة، كما أن حروب التوحيد في ألمانيا وإيطاليا وأمريكا والدماء التي أريقت فيها، هي التي مثلت قاعدة قيام العلمانية كعقيدة للدولة.
إذا ما جاء يوم وتغلبت الشوفينية في الغرب كما حدث في ألمانيا وإيطاليا خلال عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، فمن الحتمي أن تقوم نفس المجتمعات التي تحتضن اللاجئين اليوم بطردهم، إذا ما تغير النظام السياسي. |
الدين إذا لم يكن يوما إلا عقيدة الدولة، ولم يفلت يوما من زمامها، ولم يتحول يوما خارج نطاق ما تقرره، وحين تجد اليوم في الدساتير العربية، بندا يقول إن الاسلام هو دين الدولة، فهذا اختيار للدولة وليس لأفرادها، وحين تجد في المقابل التعددية الدينية لدى الغرب مباحة كما تنص عليها دساتيرها تحت بند العلمانية نهج الدولة، فهذا اختيار السلطة السياسية لا اختيار المجتمع الغربي أو أفراده. وإذا ما جاء يوم وتغلبت الشوفينية في الغرب كما حدث في ألمانيا وإيطاليا خلال عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، فمن الحتمي أن تقوم نفس المجتمعات التي تحتضن اللاجئين اليوم بطردهم والتنكيل بهم، إذا ما تغير النظام السياسي الحاكم.
الخلاصة.. يمكن التوصل إليها إذا، هي أن الدين والمذهب الواحد أو التعدد الديني والمذهبي، على مستوى الدولة، هو خيار نخبوي يتحدد من داخل صراع القوة، ومخرجات التجاذب والتناوب والتعاقب في منزلة السلطة الحاكمة، وما يرسو عليه الأمر عند هذه النقطة ينسحب تلقائيا على المجتمع والأفراد.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.