بين مثلثين

إعلان

تبدأُ المسيرة من رؤية الأشباه، كلّ شيءٍ ليس كاملًا كما يجب بحدّهِ الأدنى، نقصانٌ عارمٌ كغرابٍ تخلّى عن مشيته وقلّد حمامة السلام.. فنسي من يكون. هنا رام الله، المقاطعة التي لم تأخذ من اسمها إلا الفتات. قصدتها من ناصرة الجليل عبر طريقٍ التفافيّة استغرقت وقتًا أطول مما ينبغي، لأكتشف أنّ المثلثات قد انحرفت عن مسار قامتها.

يشقى من يدخلُ هذه البقعة الجغرافية كما الخارج منها بيد أنّها ترزح تحت سطوةِ جنديّ يهوديّ مدججٍ بالأسلحة ألفت ملامحه الثلج السيبيريّ، يحميهُ جدارُ فصلٍ عنصريّ يفترسُ ضوء الشمس من عيون الفلسطينيين كوحشٍ ضارٍ، يقتطع الأرض كبرجوازيّ قذر، ويُعطِّلُ كلّ وسائل النقل التي اخترعها الانسان منذ الخليقة، ورغم هذا، يبذلُ الفنانون جهدًا حثيثًا للاحتجاج على اسمنته، لكنّه يأبى أن يكونَ جميلاً.

نحن القاصدون للضفةِ الغربيّة من الداخل المحتلّ، تسمياتٌ لعينة مُشَرذِمَة للفلسطينيين تستوقفني على الحاجز: الضفة، الداخل، غزة، الشتات، المخيمات، المدينة، القرية.. كلّ تسميةٍ تحملُ على كاهلها مأساةً تختلفُ عن اختها، تحافظ على مملكة إسرائيل بحجّة الجغرافيا والظروف السياسية الراهنة كحجارِ شطرنج، ويتلذذ المُحتلّ بأسمائنا المتعددة المُشكِّلة لحالة شيزوفرنيا يعيشها الفلسطينيّ مع ذاته والآخر، بات يمارسها فعلاً، وهذا ما يعيه جيّدًا مغتصب الأرض، الذي رأى في اللغة والتجزئة الجغرافيّة ورقةً رابحة لسيادته على المستوى الدوليّ بعد أن تاه في أصقاع الأرض آلاف السنوات.

إعلان
هنا رام الله في الضفة الغربيّة، مواصلاتٌ عامّة صفراء لا يخلو منها أيّ شارع، بناياتٌ أسمنتيّة بيضاء فوضويّة البصيرة، باعة متجولون يلتمسون رزقًا وشوارع مكتظة بالرؤوس والغبار على أنواعهما. لافتاتٌ عربيّة لا تشوبها إلا الانجليزيّة

أما في الداخل، منذ انتكبت الأرض عملت إسرائيل على طرد اللغة العربيّة من المكان الفلسطينيّ، ورأت في عبرنة الأسماء ابادةً للتاريخ والهوية معًا، أي الأرض والإنسان: الطريق الأقصر لجعلِها يهوديّة. وهكذا أمست الناصرة "نتسيرت" والخليل "حيفرون"، أم الرشراش هي "ايلات" والقدس "يروشلايم". وما قبل النكبة أنشأ اليهود في فلسطين مصانع وشركات مختلفة اتكأ عليها الاقتصاد الإسرائيليّ لاحقًا وكانت مهد الدولة قبل قيامها، ومازالت، منها شركة المواصلات "إيجد"، شركة الكهرباء، شركة المياه، وأخرى للمأكل والمشرب ومراكز ثقافيّة يهوديّة وتوراتيّة متعددة.

هنا رام الله في الضفة الغربيّة، مواصلاتٌ عامّة صفراء لا يخلو منها أيّ شارع، بناياتٌ أسمنتيّة بيضاء فوضويّة البصيرة، باعة متجولون يلتمسون رزقًا وشوارع مكتظة بالرؤوس والغبار على أنواعهما. لافتاتٌ عربيّة لا تشوبها إلا الانجليزيّة. تبيعُ رام الله- كما غالبية مدن وقرى الضفة الغربيّة- البضائع الإسرائيليّة المستوردة والمهرّبة، رغم أنّ هذه الشركات هي داعمة وممولة للجيش الاسرائيليّ بشكلٍ مباشر، بذريعة جودتها العالية. ولا احتجاج على هذا، القادة مشغولون بالانقسام السياسيّ، وعامة الشعب يسعى نحو لقمة العيش.

أثناء سيري، أثارت رائحةُ أقراصٍ من الفلافل أنفي وقد أومأ لي صانعها بأن أشتري منه رغيفًا، لكنّ العجلة بغية وصول مقصدي منعتني. أنا التي لم أكن لأعر الفلافل هذه الأهميّة السياسيّة، حضرتني تلك اللحظة مشادّة كلاميّة وقعت في ألمانيا بيننا نحن الفلسطينيين وفريق يهوديّ مشارك في أحد الأنشطة الثقافيّة إثر ادّعائهم أنّ الفلافل طعامٌ يهوديّ أصيل، وبدورنا قدّمنا كافة الأدلّة على أنّه عربيّ ويخصّ ثقافتنا الفلسطينيّة، ومع ذلك، غرقت الأسئلة في أذهن الأوروبيين دون نجاة.

حينها، أخمد صوتٌ -مازال عالقًا في ذاكرتي- الصمت بقوّة: "نحن اليهود صحيحٌ أننا مختلفون، وقد جئنا هنا من كافة البلدان العربيّة والغربيّة من حول العالم مع اختلافاتٍ كثيرة، منّا الاشكنازيّ، الروسيّ، الشرقيّ من البلاد العربيّة، الأثيوبيّ، المتدين والعلمانيّ.. ولكن يجمعنا ديننا وأرض إسرائيل، هذه التشكيلة مزجتنا كما لو كنّا في خلاطٍ كهربائيّ نتجت عنه مادّة فريدة" قالت المشتركة بجانبي. وغارت الأسئلة في جوفي كنفقٍ بارد.

أتيقّنُ أنني في رام الله، المدينة المزدهرة تجاريًا، ثقافيًا، مؤسساتيًا، واجتماعيًا، ولهذا يقصدها مواطنو الضفةِ الغربيّة والداخل المحتلّ. هي العاصمة الإداريّة العرجاء التي تقوم مع السنوات، يتصرفُ معها الشعبُ الفلسطينيّ كعاصمةِ فلسطين المؤقتة فتحملُ عن القدسِ أوزارها ريثما تنتهي المفاوضات الفلسطينيّة- الإسرائيليّة بالاعتراف بالقدس الشرقيّة كعاصمةٍ للشعب الفلسطينيّ، إن تسنّى للفلسطينيين انتزاعها حتّى.. كنصف حوريّة مستردّة من جنّة كاملة! ثمّ كيف سينقلون العاصمة من مكانٍ إلى آخر بعد أن تأثثت؟

إعلان

كلّ هذه الأسئلة تُنسى في مدينةٍ ليليّة تتعاطى الكافيين فلا تنام، تسهرُ مع أبنائها رغم اختلاف أسبابِ سهادهم، منهم رواد المقاهي الليليّة ومحبي السمر ممن يتسكعون في الشوارع والأماكن العامّة. ومنهم من يضيء الوجه النقيض لهذه المدينة بقنديلٍ من ألم، الأمهات الثكالى على ابنائهنّ الشهداء، يتقلّبن على جمرِ الوسائد، يستعدنَ في دقيقة واحدة خبر حملهنّ به، يوم أنجبنه، وأوّل كلمةٍ لفظها ثغره، يتفحّصنَ جسده النامي ذرةً ذرّة إلى يوم مماته فيصبحُ صرير القلبِ أقوى.

 وكما يُخيّل لي، يشتدُ الألم بهنّ حين يتذكرنَ أنّ الجيش الاسرائيليّ اغتال فلذة أكبادهنّ وسط رام الله، بقربها، أو حتى في إحدى مناطق الضفة، دون أن يسعفه أحدٌ من أبناء جلدته من الموت، سوى أنّ الأمن لا تُفهمُ صيغتهُ هنا.

إعلان
أتيقّنُ أنني في رام الله، المدينة المزدهرة تجاريًا، ثقافيًا، مؤسساتيًا، واجتماعيًا، ولهذا يقصدها مواطنو الضفةِ الغربيّة والداخل المحتلّ. هي العاصمة الإداريّة العرجاء التي تقوم مع السنوات، يتصرفُ معها الشعبُ الفلسطينيّ كعاصمةِ فلسطين المؤقتة

في صباحِ اليوم التالي ذهبتُ وصديقتي إلى أحد المطاعم هناك، طلبنا لائحة الطعام، استوقفتني وجبة "مِشلَاش بيتزا" التي قرأتها على عجل ولم أفهمها، سألت صديقتي مستفسرة عنها فلربما هي صنف جديد من أصناف البيتزا التي أحبّ. أجابتني بغرابةٍ بادية على وجهها وهي تحدق بي: "تعلمتِ العبريّة في مدارس الداخل، فكيف لا تفهمينها؟". أدركتُ كمن صفعني على وجهي أنّها كلمةٌ عبريّة مكتوبة بحروفٍ عربيّة لم أقرأها جيدًا، هي مِشُلاش، وتعني المثلث بالعربيّة. أي مثلث بيتزا. لقد استعصى على العاملين الفلسطينيين هنا أن يكتبوا كلمة مثلث! يا إلهي! نزلتُ بنظري إلى الأسفلِ قليلاً وقد كُتب: "مع اضافة جبنة عيمق". وعيمق هي شركة إسرائيليّة لصناعة الأجبان.

إعلان

أعادني المثلثُ هذا إلى داخلِ قاعة محكمة إسرائيليّة توسطتها قاضيّة يهوديّة تحاكمُ شبانًا وشابات عرب بتهمة خروجهم للتظاهر نصرةً للمسجدِ الأقصى، منهم قاصرين وأطفال، لفتني حينها التصميمُ الإيحائيّ للبناية المُقدِّسِ لهرميّة المثلثات: سقفُ المحكمةِ مثلثات من القرميد، في الباحة الخارجيّة أعمدة حديديّة ضخمة من المثلثات كسيقان مملكة، الأثاثُ الخشبيّ كومة من المثلثات متلاقية الزاوية، وأشكال هندسيّة حادّة لا تشي بالليونة أبدًا. تعني: احذر من العدالة الإسرائيليّة.

حدّقتُ مليًا في لائحة الطعام لأفتّشَ عن مثلثٍ آخر مكتوبٍ باللغة العربيّة، ليس حادًا ولا رخوًا، لم أجد. وإذ بصوتِ النادل يسألني: "ماذا تطلبين؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان