هذيان الماضي والحاضر
كانت نقوش الفحم الفاترة منتشرة على الجدران تروي قصص عشق ساذجة، وتحفظ الأسماء والألقاب والكنايات كمنديل كبير ركضت فوقه طعنات الخياط حتى صار مرقدا للعبث، قبل مجيء الوزير الطموح الذي أمر بطلاء جدران المدينة وحجب الكتابات الداكنة التي قال أنها تذكره بالفتى الذي احترق ذات سنة في أرض منسية، وحشر لنزوته شباب الحي العاطلين عن العمل، وأمر بانتدابهم في الحضائر ليكنسوا الماضي ويحجبوا شعارات الأمس التي غطت جدران القرية بطلاء بخس بياضه عتمة للناظرين. الآن وهنا، الأزقة عادت بيضاء مملة، والريح مازالت تعوي كل عشية كأنها أرملة حزينة ترقب عودة جندي منتحر في الفجوج البعيدة.. والفحم لم يعد يصلح للكتابة بعد أن إبتلت كفوف الناس عرقا من مصافحة الوزير الجديد.
بوصول حزب نداء تونس إلى كل مفاصل الحكم، زاد انسداد الأفق، وتعمقت هشاشة الأوضاع، حتى أصبح الحال أشبه بالأزمة المؤجلة. |
أشياء كثيرة تجعل ماضي الواقع التونسي لا يختلف عن حاضره، فتعاقب الحكومات التي شُكّلت بع ثورة الرابع عشر من جانفي 2011 كشف مدى إرتباط الأمس باليوم و إمتداد خيوط اليأس التي ضمّت ما قبل الثورة إلى ما بعدها و رتقت هوّة التغيير التي كادت تعصف برموز الأنظمة المستبدة من الدستوريين إلى التجمعيين جوقة الحبيب بورقيبة و زين العابدين بن علي التي تمايلت طواعية مع رياح الثورة قبل أن تنقلب مع أولى إنتكاساتها ساخرة من إنتصارات شباب الهامش و نضالات سكان القرى المنسية؛ لذلك لا نرى إختلافا عميقا بين ماض جثم فوق أحلامنا ولطّخها بقبح من سادوا البلاد فيه و حاضر مازال يتعرّق من فرط إنسداد الأفق ، حتى صار الحديث عن تحقيق أهداف الثورة التونسية أقرب للهذيان منه إلى الحقيقة ، و بات انحراف السلطة عن مسار تفعيل المطالب الشعبية الملحة يقينا.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.