هروبي إلى الحرية

إبراهيم غرايبة

undefined–اسم الكتاب: هروبي إلى الحرية
المؤلف: علي عزت بيغوفيتش

-ترجمة
: إسماعيل أبو البندورة
-عدد الصفحات: 468
-الطبعة: الأولى 2002
الناشر: بيروت، دمشق: دار الفكر 2002

أمضى علي عزت بيغوفيتش أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك سنوات طويلة في السجون اليوغسلافية أثناء الحكم الشيوعي، منها خمس سنوات متصلة بين عامي 1983 و1988. وقد أجرى بيغوفيتش أثناء سجنه عملية حوار ذاتي وتأمل فكري وفلسفي طويل وعميق موظفا قراءاته الكثيرة جدا وثقافته الواسعة، محاولا بذلك أن يحافظ على لياقته النفسية ويهرب روحيا من السجن إن عجز عن الهروب الجسدي، وربما ليحمي نفسه من التآكل والانهيار ومن تأثير السجن القاسي والمدمر على نفسية السجين وروحه.

ولد علي عزت بيغوفيتش عام 1925 وحصل على الشهادة العليا في الحقوق، وانتسب إلى منظمة الشباب المسلم عام 1940، وسجن بين عامي 1946 و1949، ثم حكم عليه بالسجن عام 1983 لمدة 14 عاما، ولكنه أفرج عنه عام 1988، وأنشأ عام 1989 حزب العمل الديمقراطي وكافح لأجل استقلال بلاده وكان أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك.

وقد كتب في السجن ملاحظات ومذكرات وأفكارا وخواطر متفرقة باللغة البوشناقية وبخط صغير جدا، وأسلوب رمزي مشفر. وساعده في إخفاء المخطوطات وتهريبها إلى الخارج رفاق في السجن محكومون بقضايا جنائية منها القتل والتزوير، ولكنهم ساعدوه بدافع عقائدي كبير ورفضوا أن يأخذوا مكافأة مقابل عملهم ومغامرتهم.

ثم نشر بيغوفيتش خواطره هذه في كتاب أسماه "هروبي إلى الحرية" بعد سنوات طويلة من خروجه من السجن، فقد أمضى سنوات طويلة قاسية في الكفاح ومحاولة البقاء حتى اكتملت رحلة الاستقلال وتقاعد من الرئاسة وإن بقي يمارس المحاماة والاستشارات القانونية، فأعاد تحرير أوراقه وطباعتها وفك الشيفرة التي وضعها لحماية ما يكتب أو إبعاده عن مظنة الإسلامية التي كانت تهمة كبيرة.

وضعت الأوراق في ست فصول وملحق، هي: عن الحياة والناس والحرية، وعن الدين والأخلاق، وملاحظات سياسية، وعلى هامش كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، والشيوعية والنازية، وحقائق لا يجوز نسيانها، عن الإسلام، وفي الملحق نشر المؤلف رسائل أولاده التي كان يتلقاها منهم وهو في السجن.

وفي هذا العرض للكتاب سأختار وألخص وأقتبس بعضا من آلاف القصاصات والمقالات التي جمعها بيغوفيتش محاولا قدر الإمكان تكوين صورة عن الكتاب، ولكن يبدو أن المهمة ستكون صعبة، فالرجل يكثف أفكاره وكان يستخدم الوقت الكبير المتاح له في السجن في استيعاب أفكاره وقراءاته وتجاربه الكثيرة والعميقة. ولكن قيمة هذا العرض ستبقى مستمدة من قيمة الكتاب وأهمية المؤلف الذي يعرفه القارئ العربي سياسيا ورئيسا لدولة إسلامية في قلب أوروبا، ولكن كتابه هذا كما في كتابه المشهور "الإسلام بين الشرق والغرب" الذي يصفه الدكتور عبد الوهاب المسيري بأنه أهم كتاب إسلامي ألف في القرن العشرين، يظهر بيغوفيتش مفكرا وفيلسوفا أكثر أهمية بكثير من كونه قائدا سياسيا.

تناقض الديانة والفلسفة الهندية
الوحي الإلهي يشع ظاهريا من بعض جمل المهابهاراتا، وعلى الجهة الثانية هناك وثنية من أحط الأنواع، وتعيش في بعض المعابد مومسات يعلمن البراهميين الرقص، وعليهن تسليم أنفسهن لمن يريد. وهذا النظام الطائفي يتيح فقط للبراهمي أن يقرأ الفيدا، وإن فعل ذلك الشودرا المنبوذ كان يعاقب بصب الزيت المغلي في أذنيه. ونستنتج أن هذا الخليط العجيب ليس نتيجة تغيرات هادئة، وإنما هي كارثة داخلية في الروح الهندية.

الصوم وإنعاش الروح
عندما كنت في السجن وفي لحظات الاكتئاب التي تحيق بالإنسان في مثل هذه الأوضاع كنت أشعر بأن حالتي تسوء عندما أتغذى جيدا، والجوع يساعدني دائما أفضل من أي هدية تأتيني من البيت لأن الفراغ في الروح وامتلاء المعدة هي من أسوأ الاختلاطات.

أولويات الإنسان
عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة هي الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر في الحرية، وإنما في الصحة، فالصحة تسبق الحرية.

مراجعة الحتمية
نيوتن وداروين وفرويد أدخلوا الحتمية في كل ما بحثوه، الأول في الفضاء، والثاني في العالم الحي، والثالث في النفس، وكل هذه الحتميات الثلاث ستوضع أمام السؤال وبالترتيب نفسه، وبدأ الأمر مع آينشتاين بالاعتراض على نيوتن.

الشيء يحمل نقيضه
توجد بعض المفارقات: لو لم يكن الليل لكنا بقينا عاجزين عن رؤية السماء ذات النجوم، وهكذا يجردنا الضوء بعض الرؤية في حين أن العتمة والظلام يساعداننا على أن نرى شيئا.

الحياة
الحياة شيء خطير، وعدم الاستقرار هو ثمن العيش، والذين يموتون هم الذين يشعرون بالاستقرار، أو هم الذين لم يولدوا.

الرجل والمرأة هما الخلية الأساسية للعالم والحياة، ولن تغير الواقعية ولا الثورات ولا الإمبراطوريات القوانين والعالم إلا إذا تغيرت العلاقة بين المرأة والرجل، والعكس فإن أقل تغيير لهذه المادة الحياتية الأساسية تقود إلى انقلاب كبير. وهذا التاريخ البعيد تحدَّد بالمأساة الأولى التي كان بطلاها آدم وحواء.. هو وهي.

بيكاسو والفن
بيكاسو الفنان المشهور الذي أدهش العالم كتب عام 1952 عن نفسه: الناس المفرطون في الذوق، والأغنياء، والعاطلون عن العمل، والمفكرون.. يبحثون في الفن عن شيء جديد وغرائبي ومتطرف وفضائحي، وأنا شخصيا بدءا من التكعيبية وإلى الآن أمتعت هؤلاء العارفين والنقاد بكل الأمزجة الشاذة التي خرجت من رأسي، وأولئك الذين فهموها بقدر أقل أعجبوا بها كثيرا، ولكني عندما أواجه ذاتي فلا أجد الشجاعة لكي أرى نفسي فنانا بالمعنى التقليدي للكلمة، والفنانون كانوا: غيوتو، رامبرانت، غويا، وأنا كنت مسليا عاما فهم عصره واستعمل كل إمكاناته.. الغباء والزهو وطيش معاصريه.

ويعلق بيغوفيتش أن بيكاسو ربما يمزح، فلوحته "سيدة من أفيغنونا" على سبيل المثال عمل لها بيكاسو أكثر من سبعمائة دراسة وترسيمة، وكانت لوحته ثورة حقيقية في الرسم الغربي.

الدين والأخلاق
كل دين بوصفه ظاهرة تاريخية له جانبان: تعاليم هي وحي إلهي، وتجربة من عمل الإنسان، وفي هذا الاختلاط بين التعاليم والتطبيق يحدث الانحراف والخطأ.

كيف يمكن أن نحل التناقض المنطقي للقدرة الإلهية ومسؤولية الإنسان؟ كيف يمكن للقدرة الكلية أن تعود إلى الله وكل المسؤولية على الإنسان؟ الجواب هو: يمكن مثلما يكون العالم نهائيا وغير نهائي في آن واحد، غير منطقي ولكنه كذلك.

النظام الميكانيكي يعمل بلا معنى على طريقة الساعة، والأفكار الأخلاقية هي وحدها لها معنى حقيقي، وهي: الخير والشر، والصبر والطاعة والثورة والحياء والشرف والكرامة والأسف والعقوبة والجائزة والخوف والوفاء والخيانة.

لدينا في الطبيعة القوة والزمن والفضاء والعمل المتبادل والسرعة والتصادم التبادلي مع الضوء والعتمة والبرودة والحرارة والاستمرار والانسحاب والرفض والحركة والجماهير، وفي الروح هناك الخطيئة والرحمة والخدمة والعدالة والطاعة والندم والخوف والصبر والتسامح والحياد والاستقامة والإذلال والثورة والغطرسة. وهذا العالم الثاني هو خارج الطبيعي وأكثر رفعة منه، ومن هنا فإنه تحت كل الأشياء وفي نهاية كل شيء يوجد الله ويوم الحساب الكبير وليس الطبيعة.

وفي رواية لأحد الكتاب البولنديين نجد أن الإنسان الذي يعذبه الألمان والذي كان يعرف بأنه سيعدم يخون صديقه لأنه يخاف أن يموت وحيدا. وفي اللقاء أمام مجموعة الإعدام يسامح من تعرض للخيانة ذلك الذي خانه، هذه المسامحة لا يمكن بالدفاع عنها بأي أخلاق نفعية كما يعلن ذلك تشاسلاف ميلوش في العقل الممنوع.

وفي فيلم شاهدته في سينما السجن رفض البطل في النهاية أن يقوم بعمل شرير جديد وأن يقبض المال ويهرب، فيشنق، وكان الجمهور من المجرمين، حتى هؤلاء -وأعرف ذلك بالتأكيد- كانت ميولهم أن يرفض البطل الخيانة بما يعني أن يموت، ونظر الجميع إلى موته على أنه انتصار، وذهب الجميع بفم مملوء بالمرارة أنه تردد واختار الحياة، وهكذا تفرّقنا بمرارة ولكنها مرارة من نوع آخر، وفيها كرامة لأن إنسانا وحتى فيلم أراد أن يكوّن ما رغبنا أن نكونه ولم نقدر، وإذا فكرنا في هذا وفي انتصار الخاسر وأخذنا من ذلك استنتاجا حقيقيا له طابع المفارقة يمكننا أن نحل ربما أكثر أسئلة الحياة الإنسانية تعقيدا، وحتى متاهة الوجود. وفي الحقيقة فإن ما يعرض هنا بأن لك ما نطمح إليه وما نعجب به ونحترمه أو نعتقده من أكثر الأمور خيرا، ومهما فهم الناس المختلفون من ذلك وليس الحياة فحسب، وإنما شيء فوق الحياة مبدأ يحمل في ذاته رفض المصلحة والأنانية والزمن والعقيدة هي وعي طافح بذلك أو محاولة لتعريف هذه المعرفة الاستثنائية.

العقوبات الجسدية وحكمتها
تتعارض العقوبات الجسدية مع الشعور بالكرامة والاحترام الإنساني، ولكن التجربة تبين أن بعض الناس لا يملكون ذرة من الكرامة والاحترام، قال الله تعالى {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}.

والغريب أن الذين يكتبون القانون الجنائي لا يعرفون هذه الطبيعة البشرية، والمعالجون هم ممن لم يدخلوا المستشفيات أو لم يتجولوا بين المرضى، فمعظمهم تعرفوا على المخطئين أثناء الاستماع في المحكمة، ومن المهم أن المجرمين مجربون ولم يكونوا أبرياء، وحساباتهم الحياتية يمكن أن تكون خاطئة، ولكن ليس بدافع البراءة وإنما بسبب الانحياز للشر الذي هو لدى معظمهم نهائي وغير قابل للإصلاح.

وقد رأيت في السجن عددا كبيرا من الناس المعتادين على النشل وقطع الطريق، ولم ألاحظ لدى واحد منهم الاستعداد عند الخروج لقبول عمل محترم، وعلى العكس كانوا يشجعون بعضهم على الخطأ ويتبادلون الخبرات، ولاحظت الندم لدى بعض القتلة، ولكن لم يكن هؤلاء هم الأكثرية. وفي سينما السجن وفي بعض المشاهد عندما يهاجم رجل فتاة صغيرة وتصرخ هي مستغيثة، رأيت معظم المشاهدين السجناء يشاهدون المغتصب بصوت عال.

إن اللصوص والنشالين هم نوع من المجرمين لا يتورعون عن شيء، وكانوا يستمتعون بالحديث عن سرقاتهم رواتب عمال المناجم، وذكروا حالة عامل انتحر عندما اكتشف أنه سرق، وقال لي أحدهم وهو يشير إلى يديه: ألا تلاحظ أن هاتين اليدين لم تخلق للعمل، بل هما مخلوقتان لشيء آخر، وفي الحقيقة كانت يداه ناعمتين وأصابعه طويلة، فقلت له: إن معظم الناس يعتقدون أن العمل هو الذي خلق الأيدي، فأجابني بأن يديه ليستا من هذا النوع بالتأكيد، وفكرت أنه لا يستحق هاتين اليدين الجميلتين، ومن العدل ألا تكونا له، وتذكرت حكم الشريعة الإسلامية.

وعندما يوضع قانون العقوبات وينظر في تجارب السجن فأعتقد أنه سيكون شبيها بقانون العقوبات الوارد في الشريعة الإسلامية، وقد كنت متحفظا على العقوبات الجسدية ويبدو لي أحيانا أن الله أرسلني إلى السجن لكي أقارن حكمتي بحكمته.

الأخلاق والحضارة
تدخل الشعوب التاريخ غنية في الأخلاق وفقيرة ماديا، وعندما تخرج منه فإن الوضع يكون عادة معكوسا، وهذا ما يثبته التاريخ عن معظم الشعوب الهامة: الفرس واليونان والرومان والعرب. ويتبع ذلك استنتاج أن الحضارة بمعنى المعرفة المادية وحسب ممكنة ولكن الأخلاق ليست نتيجة وإنما مقدمة تاريخية، ونصادف الإنسان ومعه الوعي الديني الخالص، وعندما يبتعد التطور التاريخي فإن الدين ينسحب أو ينحرف وتسقط الأخلاق، ويظهر على المسرح غداة السقوط الإلحاد والانهيار الأخلاقي.

ولذلك فإن الأخلاق إنما نصل إليها بالوعي، وحياة البشر كما هي عليه دون أن نقدر دائما على توضيحها كجزء متمم للطينة البشرية التي تعلن ظهورها على مسرح التاريخ، ما الذي أنتج هذه الأخلاق الهامة؟ لم ينتجها شيء، إذا أخذت هذه الكلمة بحرفيتها فهذه الأخلاقية ليست نتيجة للحياة وإنما هي الحياة ذاتها، أو أنها مصدر الحياة التي ستنشأ. والفجور والفساد اللذان سيظهران في النهاية هما تعبير عن الاستنفاد وفقدان المثال، وإنها شعرات الشيب لحياة تقترب من نهايتها، والفسق هو تعبير عن الضعف وليس عن القوة، لماذا تكون الأعراق الشابة أخلاقية والمتدهورة غير أخلاقي؟ وتأتي الثورة الجنسية في الوقت الذي تكون فيه أي ثورة إيجابية أخرى غير ممكنة، إنها تملأ الوقت عندما لا توجد القوة والرغبة لأي مثال آخر، إنها علامة على غياب الرغبة الحقيقية والهدف لأن كل ما هو صالح ليس سهلا وإنما يتضمن مشقة، قال تعالى "فلا اقتحم العقبة".

المصدر : غير معروف