المدنس والمقدس: أميركا وراية الإرهاب الدولي

عرض/إبراهيم غرايبة
الكتاب عبارة عن مجموعة من المقابلات والحوارات والكلمات والمحاضرات والندوات للمرجع الشيعي المعروف السيد محمد حسين فضل الله بعد أحداث11 سبتمبر/ أيلول.

يعيد السيد فضل الله تعريف الإرهاب، ويصف من وجهة نظر إسلامية ما تسميه أميركا أعمالا إرهابية، ويستعرض معطيات الحدث العالمي والمواجهات التي حصلت في 11 سبتمبر/ أيلول بين الولايات المتحدة والقوى الإسلامية والعربية على اختلافها وتنوعها وصولا إلى الحرب الأميركية على العراق، ومرورا بالحرب على فلسطين، ويقدم قراءة نقدية للأنشطة الإسلامية التي اشتملت على العنف.

صناعة مبررات العدوان


undefined-اسم الكتاب: المدنس والمقدس.. أميركا وراية الإرهاب الدولي
–المؤلف: السيد محمد حسين فضل الله
-عدد الصفحات: 405
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر، بيروت

بدأت أميركا في عمليات مواجهة شاملة مع من اعتبرتهم مسؤولين عن أحداث تدمير برجي مركز التجارة العالمي، دون الدخول في تدقيق قضائي، وأثارت جوا من الكراهية ضد المسلمين، لأنها كانت تشعر بالحاجة إلى البحث عن ضحية أي ضحية، لتغطية الفشل الاستخباري في اكتشاف الحدث وخلفياته وتداعياته. فالقضية لم تكن عقاب مجرم تثبت جريمته بالطريقة القضائية، بل هي مسألة يراد منها تنفيذ أكثر من مخطط سياسي.

لقد فرضت الولايات المتحدة في حربها على أفغانستان والقاعدة، ثم في حربها على العراق، نظاما عالميا جديدا يستثني الشرعية الدولية، ولا يقيم وزنا لهيئة الأمم المتحدة، ويفرض مفاهيمها للإرهاب، مع أن مفهومها للإرهاب ليس واضحا أو محددا بل هو خاضع لمواقف يومية ورؤى متغيرة تتناقض في ما بينها، وعلى العالم أن يتبعها في نزواتها وتناقضها وجهلها، وأحيانا لا تعلم أو لا تريد أن تفصح عن موقفها ورأيها، ولكن على العالم كله أن يؤيدها بتبعية ولو على حساب مصالحه وسياساته، ولو كانوا حلفاء مقربين لها مثل أوروبا.

تزويد الأنفاق بالظلام


استطاع بن لادن أن يحصل على إعجاب وتأييد العالم الإسلامي إذ بدا كأنه حول التمنيات بإسقاط عنفوان القوة الكبرى إلى واقع

يصف فضل الله حالة الإنسان العربي بعد انتفاضة الأقصى الثانية وأحداث سبتمبر/ أيلول فيقول "ربما يشكو الإنسان من المظالم ويكتشف الكراهية لأميركا نتيجة سياساتها". ويرى أنها وصلت إلى درجة بات يشعر فيها الناس بالإحباط ولا يرون فائدة من العمل، "ويأتي هذا مع حالة في المنطقة العربية يصادر فيها الشعب كله، وتسيطر فيها دوائر المخابرات وقوانين الطوارئ، ويشعر الإنسان بالرعب من الحرية والتفكير الحر، ويرى المرء عمليات التدمير التي تلحق بفلسطين والفلسطينيين، وتبدو في نهاية النفق أميركا تسده بالظلام".


أمام هذا الضغط الاستكباري، يرى فضل الله أن بعض الاتجاهات الإسلامية قرأت الإسلام وآيات الجهاد والموقف من الكفار وربما قرأت بعض تاريخ العنف، فوصلت إلى نتيجة مؤداها أن الوصول إلى الهدف يكون بعمل عنفي يرضي الحالة النفسية والشعور بالقهر الذي يسيطر على كثير من المسلمين، بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى نتائج في مستوى الهدف أم لا. وهذه هي مشكلة هذه الاتجاهات في فهم التحرك نحو الأهداف الإسلامية، فهم يخلطون بين عنف الفكرة في مواجهة فكرة أخرى وعنف الوسيلة، فعنف الفكرة لا يعنى عنف الوسيلة، إلا أن الذهنية غير المثقفة وغير الواعية تخلط بينهما.

ومن جهة أخرى، فإن واقع الشرق أو العالم الثالث أمام الأزمات الخانقة وأمام كثير من حالات الإحباط والسقوط يجعله يفتش عن بطل أو منقذ ثائر. فمن السهل أن تتحرك بعض الطموحات لتقدم نفسها في موقع البطل، سواء من خلال الموقف المتحدي الذي يتسم بالعنفوان أو من خلال حركة تقوم هنا أو هناك، ما يوحي بأن هناك قوة قادمة يمكن أن تحل المشكلة أو تخفف بعض أوضاعها.

ويلاحظ فضل الله أن الأمة منذ الخمسينيات حتى اليوم قد أدمنت وجود شخصيات نستطيع أن نشكك في جدارتها، ولكن الأمة قبلت أن تختصر بهذا الشخص، ولذلك فإن من أدبياتنا أن نقول إذا ماتت شخصية إسلامية إن الإسلام قد مات، وإذا ماتت شخصية عربية إن العرب قد ماتوا.

ويخلص إلى أن شخصية بن لادن توحي بالكثير من الإعجاب، بتضحياته وزهده بالدنيا رغم توافرها بين يديه، وتبدى عنفوانه بأعمال عنف حتى خيل أنه إسقاط لعنفوان القوة الكبرى أميركا، وحولت الحماسة التمنيات إلى واقع، وهكذا استطاع هذا الرجل أن يحصل على الإعجاب والتأييد في العالم الإسلامي على امتداده، وربما أمكنه أن ينفذ إلى مجموعات من المتعلمين، لأن المسألة كانت عندهم هي الثأر بغض النظر عن المضمون.

عنفوان بعيد عن الواقع


استغلت الولايات المتحدة صورة بن لادن وحلفائه الجاهزة في وسائل الإعلام فكانوا كبش فداء جاهزا للذبح

أعتقد من يسمون بالأفغان العرب، ودون دراسة للظروف الموضوعية التي تحقق فيها الانتصار في أفغانستان، أن انتصارهم على الاتحاد السوفياتي يمكن أن يحقق لهم انتصارا على أميركا.

وخلق هذا الانتصار حالة من العنفوان ابتعدت بهم عن الواقع، وكان أن حدثت هجمات سبتمبر/ أيلول، وكانت اللحظة الأولى بعدها، في العالم الإسلامي وغير الإسلامي وفي كل العالم المستضعف هي لحظة فرح، لأن العنفوان الأميركي سقط. وخاصة عندما رأى الناس ما لا يرونه إلا في السينما والمسرحيات، فرئيس الولايات المتحدة لا يملك أن ينزل بطائرته في واشنطن، ونائب الرئيس اختفى، وكذلك أغلب الإدارة الأميركية، حتى إن أمريكا مرت في ساعات من انعدام الوزن.

كان هناك فرح ينطلق من معنى الثأر والشماتة، ولكن الولايات المتحدة استعادت المبادرة بسرعة، وعلمت كيف تستفيد من الأحداث وتحصل على أكبر مكسب من خلالها. وهذا ما حدث، فقد بادرت أميركا واتهمت الإسلاميين، واستغلت صورة بن لادن الجاهزة في وسائل الإعلام، وكانت أفغانستان تحتضن بن لادن والقاعدة، وبهذا أصبح كبش الفداء جاهزا.

وكان يخيل للناس أن طالبان سوف تصمد، وأن أميركا سوف تغرق في وحول أفغانستان كما غرق الاتحاد السوفياتي. ولكن أميركا لم تدخل وحدها، فقد كان الأفغان المعارضون لطالبان جاهزين للعمل معها، في الوقت الذي انسحبت فيه باكستان وتركت طالبان وحدها في مواجهة حرب عالمية فسقطت، ولا تزال الحرب العالمية موجهة ضد هذا العدو الأسطوري الذي استطاعت أميركا بإعلامها أن تضخمه، ليكون انتصارها عليه بحجمها هي لا بحجمه الحقيقي هو. فهؤلاء الإسلاميون قدموا خدمة لأميركا لو بذلت المليارات لما استطاعت أن تحصل عليها، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يسقطوا أميركا.

القرآن كتاب الحوار


حضور الحوار يقرب الناس بعضهم من بعض ويخلق حركة فكرية ومجتمعا متعلما متحركا وغيابه في المجتمع يجعله مجتمع قهر وعنف، وغيابه في علاقات الأفراد يجعلهم جزرا معزولة

يعتقد فضل الله بأهمية الحوار وأنه يمكن أن يكون أساسا لتجتمع الإنسانية حوله، وعلى الإنسان الاطلاع على أفكار الآخرين، ففي ذلك فهم لفكر الآخر. وكان أول كتاب له قبل 45 سنة هو "أسلوب الدعوة في القرآن"، ثم كان كتابه الثاني هو "الحوار في القرآن"، فالحوار في هذا السياق أحد الأفكار والحلول المهمة للخروج من مأزق العنف والتطرف.

ويلاحظ أنه في مقابل الغياب الكبير المفزع للحوار في حياتنا وعلاقاتنا وعملنا، هناك حضور كبير للحوار في القرآن الكريم ومقاصد الشريعة الإسلامية، حتى يكاد يكون قضية أساسية، فنجد في القرآن الكريم مواضع لا تعد ولا تحصى للحوار، الحوار بين الله والملائكة، "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" والحوار بين الله وإبليس، والحوار بين الله والأنبياء، وحوار الأنبياء مع قومهم، وحوار الأنبياء والصالحين مع أنفسهم. ونجد في القرآن دعوة إلى الحوار في العلم والدعوة والحياة، "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".

والحوار بهذا المعنى ليس فقط لتوضيح القضايا التي يختلف عليها، ولكنه يقرب الناس بعضهم من بعض، ويخلق حركة فكرية ومجتمعا متعلما متحركا. وغياب الحوار في المجتمع يجعله مجتمع قهر وعنف، وغيابه في علاقات الأفراد يجعلهم جزرا معزولة بعضها عن بعض، ويحول همومهم إلى الغرق في الذات والدوران حولها، حتى درجة المرض والهوس. وغياب الحوار بين الدول يعطل مصالحها ويضر بشعوبها ويجعلها تتحمل جهودا وتكاليف زائدة يمكن الاستغناء عنها وتوفيرها أو استخدامها في المصالح والاحتياجات.

ويمكن أن نجعل -كما يقول فضل الله- الحوار منهجا للتربية، وتكوين القناعات، وأسلوب الحركة الفكرية في التنشئة، وتهيئة الروح الموضوعية في مواجهة مسائل الخلاف، وفي تقبل الفكرة المضادة بطريقة عقلانية واقعية.

فموضوع الحوار يرتبط بالتكوين الداخلي لشخصية الإنسان المسلم الذي يريد له الإسلام أن يفكر كيف يتعلم ويدعو الناس ويفتح قلوبهم وعقولهم على الحق والصواب، ولا بد من الحوار حتى تستمر الحياة في حالة الضعف أو القوة، وفي حالة الحرب أو السلم، فلا أحد يستطيع أن يستغني عنه مهما علا شأنه أو كانت قوته، فردا كان أو مجموعة أو مجتمعا أو دولة.

وقضية الحوار هي إحدى الهموم الكبيرة للعاملين في الدعوة والتربية والتعليم والإعلام والسياسة والدبلوماسية والتجارة والتسويق، وتتزايد الحاجة إليه كأساس للثقافة والعمل والتعليم والعلاقات والتنظيم. ونلاحظ على سبيل المثال ازدهار البرامج الحوارية مع تنامي الفضائيات والإنترنت، حتى يكاد يكون الحوار هو السمة الأساسية للفضائيات والإنترنت، وتعتمد عليه تماما مؤسسات التعليم عن بعد والتعليم المستمر، فمن دونه تفقد هذه البرامج جوهرها وجدواها.


حين يفشل الحوار أو يفتقد، يسود الاضطراب علاقات الدول والأفراد

وكان الحوار قبل الإسلام كما في الحضارة والفلسفة اليونانية فنا قائما بذاته، فالمحاورة تحدد موضوعا للدراسة، وليس القصد منها الخروج بنتيجة بصدد المشكلات المعروضة بقدر ما تجعلنا أقدر على الجدل في كل الموضوعات، فهدف المحاورات لم يكن إمداد الناس بالمعلومات والمعارف، بل تقديم مساعدة على التدريب على فنون الجدل.

أما الهدف الأساسي للحوار في الإسلام فهو وصول الناس إلى الحق بالطريقة التي تعمق الإيمان في نفوسهم، فالإسلام ينطلق في فهمه للحوار من فكرة أن الله فطر الإنسان على الجدل "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" ليواجه الحياة بكل ما فيها من أوضاع وملابسات وأفكار بعقلية منفتحة قلقة لا تستقر على حال، وهذا ما يجعله في بحث دائم مستمر عن الحق والأفضل والأكثر صوابا، فثمة ما هو صواب وما هو أكثر صوابا، والشك هو طريق اليقين أو إثبات اليقين ورسوخه. وترى الإنسان لا يستقر على حال فتراه يفتش عن الشيء وضده، عن الحق والباطل، فلا يتيقن إلا ليتململ في رحلة جديدة من الشك، ولا يشك إلا ليبدأ رحلته الطويلة نحو اليقين.

وقد رأينا في علاقات الدول والأفراد اضطرابا حين يفشل الحوار أو يفتقد، فقتل قابيل أخاه هابيل عندما فشل الحوار بينهما، ولكن يبقى العقل هو القوة الصالحة للحكم على الأشياء وميزانا يزن به صحة القضايا وفسادها، حتى في يوم القيامة لا يقف الإنسان مكتوف اليدين أمام مصيره بل يترك له مجال الدخول في حوار وجدال يدافع به عن نفسه على أساس العدالة التي تحترم في الإنسان حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه حتى أمام الله الذي يعلم كل شيء.

المصدر : غير معروف