الليبرالية الجديدة في مواجهة الديمقراطية

عرض/إبراهيم غرايبة
يرى ناهض حتر في كتابه أن الليبرالية الاقتصادية لا تتضمن بالضرورة ليبرالية سياسية، فالصين على سبيل المثال تجمع بين الليبرالية الاقتصادية والتوليتارية "الشيوعية"، ودول الخليج تجمع بين انفتاح اقتصادي واندماج في العولمة مع أنظمة سياسية تقليدية ومحافظة.

undefined

-اسم الكتاب: الليبرالية الجديدة في مواجهة الديمقراطية.. قراءة في الحالة الأردنية
-المؤلف: ناهض حتر
-عدد الصفحات: 206
–الطبعة: الأولى 2003
-الناشر: عمان، دار
أزمنة

أما على الصعيد الأردني فحكومة رجل الأعمال الأردني علي أبو الراغب تسعى منذ تشكيلها في منتصف عام 2000 إلى ترسيخ منهج ليبرالي اقتصادي يهدف إلى استيعاب وإنجاز تحولات اقتصادية واجتماعية تصاحب الخصخصة والانفتاح الاقتصادي وإلى الحد من ظاهرتي البطالة والفقر.

وقد رافق برنامج الحكومة الليبرالي عمليات تأميم سياسي، فقد حل البرلمان وعطل العمل النيابي لمدة سنتين، وأصدرت مجموعة كبيرة من القوانين الاستثنائية، وحلت البلديات المنتخبة. وكأن هذا السلوك السياسي غير الليبرالي كان شرطا أساسيا لتحقيق البرنامج الاقتصادي الليبرالي القائم على الخصخصة الشاملة وِإعادة هيكلة الإدارة والبيئة القانونية على أسس الليبرالية الاقتصادية.

وفي تقديمه للكتاب، يقوم الأستاذ الجامعي الأردني الدكتور هشام غصيب بتعزيز وجهة نظر مؤلف الكتاب من خلال مجموعة ملاحظات تفيد بأن دعاة الليبرالية الاقتصادية قبل منتصف القرن التاسع عشر لم يكونوا دعاة للديمقراطية، بل يمكن القول إنهم كانوا يميلون إلى مناهضتها، وأن المفكر الليبرالي جون ستيوارت وجد تعارضا بين الليبرالية والديمقراطية حين حاول التوفيق بينهما.

وقد تأخرت الحاجة للجمع بين الديمقراطية والليبرالية في أوروبا حتى تأكدت الحاجة للاستقرار، وكان هذا الجمع قائما على الصراع والتنافس الذي يتبادل فيه الطرفان -الليبرالي والديمقراطي- المكاسب والخسائر بالنقاط. وعندما سادت الديمقراطية البورجوازية القائمة على تنامي قوة الطبقة العاملة في الربع الثالث من القرن العشرين في الغرب، استطاعت أن تحد كثيرا من الليبرالية الاقتصادية.

فالليبرالية -في دعوتها إلى حرية التملك الخاص وفتح الباب على مصراعيه لقوى السوق- هي في جوهرها دعوة إلى القبول بالهيمنة المطلقة للاحتكارات والشركات الكبرى. وأما الديمقراطية فهي -حتى في شكلها البورجوازي السائد في الغرب-حصيلة نضالات جماهيرية، وهي تتيح لشراكات الطبقات العاملة مع البورجوازية أن تحد من تغول النخب الاحتكارية وتوسع المشاركة في صنع القرار.


أخطر تعد على الديمقراطية قامت به الليبرالية الأردنية كان تعطيل الانتخابات البلدية القائمة منذ الثمانينيات

التجربة الليبرالية الأردنية
نفذت التجربة الليبرالية الأردنية -برأي حتر وغصيب- بالالتفاف على الديمقراطية، وبالطبع لا يمكن تمرير تدهور مستوى المعيشة والخدمات التعليمية والصحية وزيادة الفقر والبطالة وتفكك أركان المجتمع المصاحبة للسياسات الليبرالية إلا بالالتفاف على المؤسسات الديمقراطية.

ولكن الدولة الأردنية -كما يراها حتر- هي تحالف اجتماعي، ولن تتحقق أية قفزة تنموية لا تأخذ هذا التحالف بعين الاعتبار بل وتنطلق منه. كما أن تحول الدولة عن دورها الاقتصادي الاجتماعي سيؤدي إلى نتائج تدميرية مباشرة، منها ظهور أشكال جديدة من عبودية العمل تتضافر عليها تحالفات تشريعية وإدارية تهدف إلى تسهيل أعمال المستثمرين بغض النظر عن استنزاف مدخرات الفئات الشعبية. بل إن الدولة تتخلى اليوم عن مكتسبات كانت منقوصة ويؤمل تطويرها، مثل حقوق العمل والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، فالاستثمارات الكمبرادورية اليوم تشغل المواطنين بدون أي حق أو ضمان تحت غطاء من الشراكة والعقود المجحفة.

وتؤيد هذه المقولات أن النمو الاقتصادي المعلن عنه رسميا وهو 3% لعام 2001 ترافق مع ارتفاع نسبة البطالة واستمرار الركود والفقروتدني مستوى نوعية الحياة، فهو نمو غير مولد لفرص العمل ولا يعود أثره الإيجابي على جميع الناس.

وربما كان أخطر تعد على الديمقراطية قامت به الليبرالية الأردنية هو تعطيل الانتخابات البلدية القائمة على نحو مستمر منذ الثمانينيات، ولا يعني هذا بالطبع إنكار الأوضاع البائسة للبلديات وحاجتها للتطوير. ولكن كان من الممكن أن يتم ذلك مع المحافظة على النهج الديمقراطي والشعبي، بل إن الاتجاه العالمي هو تشجيع الحكم المحلي وتوسعته وإضافة صلاحيات وأدوار جديدة له، لمساعدة الناس على تدبير مواردهم وشؤونهم والتخفيف من أعباء الحكومة المركزية والمالية.

الليبرالية وحقائق التكوين
تشكل التكوين الأردني الحديث خلال القرون الثلاثة الأخيرة في عملية تاريخية مديدة عبر تفاعلات سكانية واجتماعية وسياسية أدت في نهاية العهد العثماني إلى نتيجتين:

  1. استقرار عشائر فلاحية وبدوية متحدة في مناطق محددة وفي أطر سياسية محلية تحظى بالاعتراف المتبادل، كما تحظى باعتراف الدولة العثمانية.
  2. نشوء شبكة من العلاقات بين تلك العشائر المتحدة والمناطق ذات الطابع الوطني المحلي، مما جعل الدولة العثمانية توحد إداريا تلك المناطق التي تأسست فيها لاحقا إمارة شرق الأردن.

وقد راعى التطور الإداري لإمارة شرق الأردن ثم المملكة الأردنية الهاشمية حقائق التكوين الوطني الأردني الموروثة من العهد العثماني، ليس فقط إقرارا بشرعيتها التاريخية بل وأيضا انسجاما مع الحقائق القائمة على الأرض. وتتشكل الأردن اليوم من محافظات تعكس امتزاج الحقائق الاجتماعية التاريخية المستحدثة.

ثم تفاوتت المناطق بفعل الدولة المركزية في عمان، والهجرات الفلسطينية الجماعية. وتبع ذلك تفاوت في السياسات التنموية والاقتصادية والإنفاق العام مما جعل عمان العاصمة والمدن القريبة منها والمحيطة بها تحظى بالرعاية والاهتمام، حتى صار الأردن دولة العاصمة تقريبا. وانعكس هذا على التمثيل النيابي والحكم المحلي، وعلى التكوين الوطني للدولة. ولم تعكس التشريعات والسياسات برأي المؤلف التكوين الوطني الأردني الأساسي، ومصالح المحافظات، والتنوع السكاني، والاتجاهات السياسية والفكرية التي تكونت وصارت هي أيضا أحد مكونات العملية السياسية والتنموية.

وبالطبع يمكن الرد على المؤلف في أن ما يدعو إليه قد تحقق في الليبرالية الجديدة، ويستطيع أنصارها أن يقدموا أدلة صحيحة على التمثيل الوطني العادل، والتنوع السكاني، والحرية السياسية التي تسمح للأفكار والاتجاهات بالعمل والنشاط والوصول إلى الحكم والمؤسسات المعتمدة على الانتخاب كالحكم المحلي والنقابات.

ولكن يكمن الاختلاف بين المؤلف ومخالفيه في نسبية الإنجاز، وفي فلسفة التشريع والإدارة والتنمية. فالمؤلف يدعو إلى أن تكون مرجعية العملية السياسية هي التكوين الوطني الأساسي والتنوع السكاني والمصالح والاتجاهات الفكرية والسياسية، وليس أن تكون هذه الأهداف تحصيل حاصل قد تذهب بها انتخابات أو قرارات عابرة.

كما أنه لا قيمة لتحديث ولا لديمقراطية تذهب بهذه المرجعيات التي يراها تحكم أساسا السياسات العامة للدولة، في حين تسعى الليبرالية المتنفذة إلى رخاء اقتصادي وانفتاح على العالم بأي ثمن حتى لو كان هذا النمو الاقتصادي يعصف بمصالح بل بوجود الطبقات الوسطى والفقيرة والدور الاجتماعي للدولة وهويتها الوطنية والثقافية.

البرلمان وتكوين الدولة وسياساتها


قدر المؤلف أن المقاعد النيابية المخصصة لتمثيل الفلسطينيين ستذهب إما إلى حركة حماس وإما إلى نخب انتهازية معزولة، ولن تخدم المواطنين من أصل فلسطيني بصفتهم أردنيين

جرت انتخابات نيابية مؤخرا في الأردن بموجب قانون استثنائي، وقد أعطى القانون للحكومة صلاحية تقسيم الدوائر الانتخابية وتوزيع المقاعد النيابية. وبرغم ما يبدو من الطابع التنظيمي لهذه الإجراءات، فإنها في الحقيقة تحمل المضمون السياسي الاجتماعي للانتخابات التي تنظم العملية السياسية، ويفترض أن يختار المواطنون بموجبها الحكومة التي يمولونها من الضرائب التي يدفعونها، وتستمد شرعيتها واستقرارها من قبولهم بها.

ولكن الحكومة الليبرالية انتزعت حق المجلس النيابي في التشريع في هذا المجال، ومن ثم لم يعد المواطنون ولا النواب قادرين على التأثير أو التعبير عن تكوينهم الوطني وتمثيل مصالحهم بعدل في الحكم والتشريع. وربما يكون ذلك أقسى ضربة وجهتها الليبرالية إلى الديمقراطية الأردنية، إذ أنها جردت المجلس من كثير من الصلاحيات والأدوار، ومنحت الحكومة أو السلطة التنفيذية عمليا حق التعديل في التركيبة السكانية والاجتماعية للدولة الأردنية بموجب نظام لا يصل إلى مستوى القانون.

وقامت الحكومة بموجب هذا الإجراء التنظيمي بإعادة توزيع حصص المقاعد النيابية في استهداف واضح لزيادة تمثيل المواطنين من أصل فلسطيني، وقد حصلوا بالفعل في المجلس الأخير على ربع المقاعد النيابية في أعلى نسبة تمثيل لهم منذ عام 1989، وهي نسبة تزيد إلى 40% عند ملاحظة أن أكثر من ربع المقاعد هو حصص مخصصة لفئات من السكان المسيحيين والشركس والشيشان والبدو والمرأة.

والمؤلف لا يعارض تمثيل المواطنين من أصل فلسطيني على نحو عادل، لكنه ينطلق في معارضته من مبدأ أن توزيع المقاعد استجاب للخلل في توزيع الثروة والإنفاق العام. وتعامل مع ذلك كله كأمر واقع مقبول، دون اعتبار للتكوين الوطني التاريخي والتقسيم الجغرافي التاريخي. ويمكن برأيه تحقيق العدل للتمثيل السكاني وتنوعه على أساس المحافظة على التكوين الوطني وإعادة توزيع الثروة والإنفاق. إذ أن الخلل في الكثافة السكانية لصالح عمان ناجم في الأساس عن سوء توزيع الثروة الوطنية والاستثمارات والإدارات والبنى التحتية لصالح العاصمة ضد الريف والبادية.

وقد ضاعف التنظيم الأخير للعملية البرلمانية قوة وإمكانات العاصمة العملاقة أصلا، وأضعف المدن والأقاليم الضعيفة ابتداء. وهذا شأن الليبرالية دائما أو في معظم الأحيان، إذ تزيد الأغنياء ثراء والفقراء ظلما ونسيانا. فهي في تاريخها وحقيقتها إدارة نخبوية لصالح الفئات الغنية والمتنفذة المقيمة عادة في العاصمة، وإقرار وتغطية للخلل والظلم الذي أنشأه الاقتصاد الكمبرادوري.

ويرجح المؤلف أن الجسم الأساس للمواطنين من الأردنيين والفلسطينيين سيكون عازفا عن المشاركة السياسية، ومن ثم فإن التمثيل السكاني في مجلس النواب سيكون نخبويا لا يعبر عن مصالح السكان بقدر ما يعبر عن مصالح النخب والتنظيمات والارتباطات الضيقة المختلفة عن الحراك الاجتماعي للمواطنين وتطلعاتهم.

وبناء على ذلك، قدر المؤلف أن المقاعد النيابية المخصصة لتمثيل الفلسطينيين ستذهب إما إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإما إلى نخب انتهازية معزولة، ولن تخدم المواطنين من أصل فلسطيني بصفتهم أردنيين.

وقد يكون مبكرا مقارنة نتائج الانتخابات النيابية مع توقعات المؤلف، ولكن القراءة الأولية تشير إلى صحة توقعاته. فالمشاركة السياسية تحتاج إلى عملية اجتماعية وسياسية شاملة تقوم بها الدولة، وليس تشريعات وقرارات تصمم المشاركة على الورق. وهذا ما لا تريده الليبرالية بالطبع، فأول وأهم أهدافها أن تتخلى الدولة عن وظيفتها الاجتماعية وأن يترك ذلك للسوق.

حكام من رجال الأعمال
تحكم في الأردن -كما في دول أخرى كثيرة- طبقة من رجال الأعمال. وكان أول ما حققته هذه الطبقات الاقتصادية الليبرالية إلغاء دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، وتحويل الدولة برأي المؤلف إلى هيئة سكرتاريا للأقلية الرأسمالية. ولكنه مسار للدولة أقرب إلى الانتحار، فلن تتحقق أية قفزة تنموية لا تأخذ بعين الاعتبار هذا التحالف الاجتماعي الذي يقوم عليه الأردن.

ذلك أن إفقار وتهميش الغالبية من المواطنين في بلد صغير وسوقه صغير أيضا يعني عمليا خفض الطلب الكلي وتحطيم القوة الشرائية المحلية، مما يعني خسارة السوق المحلي والصناعات والخدمات المحلية، وإغلاق السوق الوحيد الممكن أمام مجموعة كبيرة من الأعمال والخدمات. وهي عملية تضيق الخناق على الطبقة الوسطى التي تتلاشى تحت مطارق الركود والتضخم، ولا يبقى في الميدان الاستثماري سوى مجموعات متناثرة من الرأسماليين معظمهم من الوسطاء الكمبرادوريين، وهؤلاء لا يستطيعون حتى لو أرادوا أن يحملوا الدولة.

أما وقد أجريت الانتخابات النيابية، وانتهت تقريبا فترة حكومة أبو الراغب -سواء أعاد تشكيل الحكومة القادمة أم كلف غيره بذلك- فإن كتاب ناهض حتر يأتي في توقيت مناسب، ربما لم يكن مقصودا ومخططا له على هذا النحو لتقويم تجربة "اللبرلة" الفوقية والقسرية إلى حد ما، ومراجعتها والتوثيق للحياة السياسية الأردنية في تطبيقاتها اليومية الكثيرة.

المصدر : غير معروف