العراق.. هوامش من التاريخ والمقاومة

عرض/ إبراهيم غرايبة
يستحضر المؤلف في هذا الكتاب مجموعة من الوقائع في تاريخ العراق يجدها مهمة للنشر والتسجيل في ظروف الاحتلال الأميركي للعراق، والمؤلف هو الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف، مؤلف رواية أرض السواد التي تسجل في ثلاثة مجلدات تاريخ العراق الحديث، وكانت قد تكونت لديه أثناء تحضيره للرواية وقراءته في تاريخ العراق مجموعة من الهوامش التي يراها مهمة في تكوين ذاكرة تاريخية.


undefined-اسم الكتاب: العراق.. هوامش من التاريخ والمقاومة
–المؤلف: عبد الرحمن منيف
-عدد الصفحات: 207
-الطبعة:الأولى 2003
الناشر: المركز الثقافي للنشر والتوزيع، الدار البيضاء والدار العربية للعلوم والطباعة، بيروت


ثورة العشرين
بعد أن استولت القوات البريطانية على العراق عام 1917 قال القائد البريطاني الجنرال مود كلمته المشهورة مخاطبا الشعب العراقي "لقد جئتكم محررا لا فاتحا"، وأقام الإنجليز في العراق حكما مباشرا، وتولوا بأنفسهم الإدارة والسيطرة على الثروة، بما في ذلك الجهاز الإداري والضرائب وتعيين حكام المناطق.

وفي العام 1920 هبت ثورة عراقية كبرى بقيادة زعماء القبائل وعلماء الدين، واتسع نطاقها لتشمل المدن والحواضر العراقية مثل النجف وكربلاء والسماوة، وقطعت طرق المواصلات التي تعتمد عليها القوات البريطانية، البرية منها والنهرية وكذلك سكة الحديد، حتى استشرت مجاعة بين البريطانيين.

وبعد شهرين من الثورة الشاملة انسحبت القوات البريطانية من معظم مواقعها لتتحصن في حاميات دفاعية، وسيطر الثوار على معظم العراق عدا بغداد والبصرة.

ولجأت القوات البريطانية إلى حرق المحاصيل الزراعية، ودفع حملات عسكرية بالغة القسوة لمعاقبة السكان وإرهابهم ومنعهم من التعاون مع الثوار، وجندت أعدادا كبيرة إضافية من قواتها في الهند ومن المتطوعين البريطانيين من القوميين والشوفينيين، ودخلت في مواجهة إستراتيجية جديدة قائمة على النفس الطويل والمواجهة النفسية ومحاولة اختراق الثوار وتفريقهم.

وبعد انتهاء الثورة عين السير بيرسي كوكسي مندوبا بريطانيا في العراق، واتجه التفكير إلى التخلي عن الحكم المباشر، واعتماد صيغة الحكم الوطني الموالي والمعتمد من قبل الإنجليز.

وباختيار حكومة مؤقتة، ثم اختيار فيصل بن الحسين ملكا للعراق انتهت الثورة التي كانت أول ثورة عربية في المشرق تقاوم الاحتلال، وقد كبدت المحتلين خسائر فادحة، وغيرت من نظرتهم للكيفية التي يجب أن يحكم بها العراق، فبعد رغبة في ممارسة الحكم مباشرة اضطر الاحتلال إلى استبدال هذه الصيغة بالحكم الوطني، وقد شملت هذه الثورة جميع العراق، واتحدت فيها جميع الطوائف والمذاهب العراقية.


كان الشيخ ضاري حلقة الوصل بين جميع الثوار على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم، وكان يتولى تمويل الثورة بالرجال والسلاح والمؤونة

الشيخ ضاري الحمود
يعرف المتابعون للشأن العراقي اليوم الشيخ الدكتور حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء العراق، والملفت للاهتمام بمظهره المهيب وحديثة المتدفق، وقد أجرت قناة الجزيرة معه لقاء مطولا.

فهو ابن الشيخ ضاري الحمود أحد أهم قادة ثورة العشرين، الذي قطع مع رجاله خط الإمداد عبر الفرات للقوات البريطانية وأوقعها تحت حصار صعب، وقد كان الشيخ ضاري حلقة الوصل بين جميع الثوار على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم، وكان يتولى تمويل الثورة بالرجال والسلاح والمؤونة، كما كان يمنع الإمدادات البريطانية من المرور عبر الفرات حيث كانت قبيلته تسيطر على الضفاف الغربية للنهر.

وقد تعرضت قبيلة زوبع التي يقودها الشيخ ضاري لعقوبات انتقامية بسبب مواقفها الوطنية فأتلفت مزروعاتها، واعتقل عدد كبير من رجالها، وعندما حاول الضابط لغمان مساعد المندوب السامي في لقاء بينه وبين الشيخ ضاري استفزازه وإهانته سل سيفه وقتله.

وفي العام 1927 صدر عفو عام عن رجال الثورة، ولكن استنثي منه الشيخ ضاري وأبناؤه، وعندما كان الشيخ مسافرا إلى حلب للعلاج بعد أن اشتد عليه المرض تعرض لخيانة من السائق الذي سلمه للبريطانيين، وكان في الثمانين من عمره، وتوفي عام 1928 أثناء اعتقاله بسبب المرض الشديد والإهمال، وكانت جنازته يوما حافلا في تاريخ العراق الحديث.

مس بيل (الخاتون)
صدر عام 2002 كتاب "جيرترود بيل، من أوراقها الشخصية" من تأليف إليزابيت بيرغوني، وكتب المؤلف مقدمة هذا الكتاب عندما ترجمه نمير عباس مظفر.

لعبت هذه المرأة التي جاءت إلى العراق عام 1914 دورا بالغ الأهمية في ترتيب أوضاع العراق بعد الحرب العالمية الأولى، فقد كانت بسعة علاقاتها ومعارفها وخبراتها بالعراق أهم عون للمندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس في هندسة مستقبل العراق.

الملك فيصل الأول
بعد ثورة العشرين جرت مفاوضات بين البريطانيين من جهة ومجموعة من القيادات العربية ليتولى فيصل بن الحسين ملك العراق، وكان قد خرج من سوريا بعد الاحتلال الفرنسي لها وإنهاء ملكه الذي أنشأه فيها قبل ذلك بأشهر قليلة.

وقد واجه الملك فيصل منذ توليه الحكم تحديات داخلية لبناء العراق وتوحيده، وخارجية مع بريطانيا لتحقيق الاستقلال، وكان من أهم القضايا التي واجهها: العلاقة مع الدول المجاورة، ومشكلة الموصل، والنفط، والدستور.


في جو من المكائد والنزاعات بين رجال الدولة اغتيل الملك غازي وكان اغتياله فاتحة لسلسلة من الاغتيالات والانقلابات التي لم تتوقف حتى بعد تصفية الأسرة الحاكمة في العراق عام 1958

الملك غازي
بعد وفاة الملك فيصل تولى الملك ابنه غازي الذي ابتدأ عهده بمواجهة تمرد الآشوريين، وقد ووجهت هذه الثورة بقسوة وعنف، وتولى ذلك بكر صدقي وهو قائد عسكري كردي.

وكان الملك غازي شابا في بداية العشرينيات ومحاطا بعدد من كبار رجال السياسة المحنكين الذي رافقوا والده الملك فيصل، مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وجميل المدفعي، وهو وإن كان أمرا إيجابيا من ناحية فإنه من ناحية أخرى كان سببا للخلافات والمكائد بين السياسيين.

دخل الملك غازي في مواجهة سياسية مع الإنجليز لم يكن سهلا الخروج منها، وفي جو من المكائد والنزاعات بين رجال الدولة اغتيل الملك غازي، وأخرجت عملية اغتياله على أنها حادث سيارة، وكانت تلك الوفاة فاتحة لسلسلة من المؤامرات والاغتيالات والانقلابات التي لم تتوقف حتى بعد تصفية الأسرة الحاكمة في العراق عام 1958.

ياسين الهاشمي.. الشهاب الذي هوى
كان ياسين الهاشمي ضابطا مرموقا في الجيش العثماني، وقد أبلى في الحرب العالمية الأولى بلاء حسنا، ثم انضم إلى الملك فيصل وشارك في تشكيل الحكومة السورية الأولى، ثم جاء إلى بغداد مع الملك فيصل، وكان ممنوعا من دخولها من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، وقد أنشأ حزبا سياسيا مناوئا لبريطانيا، وقد كلف بتشكيل الحكومة عام 1924، ثم في عهد الملك غازي.

وقد دخلت الحكومة في مواجهة مع رئيس الأركان بكر صدقي الذي زحف بقوات عسكرية في انقلاب عسكري على الحكومة، وشكلت حكومة بقيادة حكمت سليمان، وسافر إلى خارج البلاد كل من نوري السعيد وياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني.

كان ياسين الهاشمي قوميا معاديا بقوة لبريطانيا، ومتضامنا مع حركات التحرر العربية في سورية ولبنان، وأيد بقوة المقاومة الفلسطينية، وكان يدير بالتعاون مع الملك غازي إذاعة خاصة تبث من قصر الزهور للملك غازي، وكانت إذاعة قوية تهاجم بريطانيا علنا وبصراحة.

وغادر الهاشمي بغداد إلى بيروت، وتوفي في المنفى، ودفن في دمشق إلى جوار قبر صلاح الدين تقديرا لدوره القومي وسمعته العربية الطيبة.

عبد الإله الوصي على عرش العراق
الأمير عبد الإله هو ابن الملك علي بن الحسين آخر ملوك الحجاز قبل أن تؤول السلطة فيها لآل سعود، وقد تزوج الملك غازي من أخته "عالية" وكانت عائلته تقيم في إسطنبول، وجاء معها إلى العراق، ويعتقد أنه كان له بالتعاون مع نوري السعيد دور في اغتيال الملك غازي.

وعين وصيا على العرش لأن الملك فيصل الثاني ابن أخته كان عمره عندما توفي أبوه أربع سنوات فقط.

ودارت منافسات قوية بينه وبين نوري السعيد رغم أن السعيد هو الرجل الأول وراء تعيينه وصيا على العرش ووقف بقوة في مواجهة اختيار الأمير زيد بن الحسين الذي كان نائبا للملك فيصل، أو الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن ملكا أو وصيا، ودخل أيضا في مواجهة مع رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء، وقد غادر بغداد لفترة من الزمن بعد مواجهة مع قادة الجيش العراقي، وقد عزل عن الوصاية، وعين مكانه الشريف شرف، ثم أعيد مرة أخرى في عملية انقلابية صفي فيها بالقتل والعزل والنفي والاعتقال معظم قادة الجيش والوزراء وكبار الموظفي إن لم يكن جميعهم، حتى إن المعتقلات ضاقت بالمساجين، فاستخدمت المساجد لاحتجاز الناس.


إن درس العراق يعني المنطقة كلها لأن لأميركا مخططا تريد تطبيقه لإحكام سيطرتها على المنطقة أولا، ثم مد هذه السيطرة إلى مناطق أخرى
من العالم

رشيد عالي الكيلاني
شكل رشيد الكيلاني الحكومة لأول مرة في عهد الملك فيصل الأول، وكان رئيسا للحكومة عام 1941، ودخل أثناء هذه المرحلة في مواجهة مع الوصي عبد الإله ومع بريطانيا، وقد نحي عبد الإله عن الوصاية واختير بدلا منه الشريف شرف.

وألغى رشيد الكيلاني المعاهدة البريطانية، ودخل في مواجهة سياسية ثم عسكرية مع بريطانيا، وصفيت حركة الكيلاني، وأعدم عدد كبير من قادتها، ولجأ الكثير منهم إلى الخارج، ومنهم رشيد الكيلاني الذي لجأ إلى دول عدة آخرها مصر، ثم عاد إلى بغداد عام 1958، ولكنه اعتقل بعد أشهر من عودته، ثم لجأ إلى بيروت والقاهرة، وعاد مرة أخرى إلى بغداد بعد سقوط عبد الكريم قاسم، ثم لجأ إلى بيروت وتوفي فيها عام 1965.

بين الاحتلالين
تثير المطالعة التاريخية للاستعمار البريطاني للعراق بعد الحرب العالمية الأولى مقارنات كثيرة مع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 ربما يكون استحضارها مهما ومفيدا.

فقد بدأ كل من الاحتلالين بإدارة مباشرة ولكن المقاومة الشديدة اضطرتهما للتخلي عن المشروع لصالح حكم وطني، ولكن في الوقت الذي كان يتعامل فيه البريطانيون مع أشخاص مثل الملك فيصل الأول ورفاقه من القادة العراقيين ذوي المؤهلات العالية والانتماء الكبير فإن الإدارة الأميركية اليوم تفاوض نفسها.

إن إعادة رواية الأحداث برأي المؤلف يربطها بأحداث قريبة مشابهة، ويجعل الناس يعرفون كيف واجه آباؤهم وأجدادهم الاحتلال وقاوموه، وكبدوه خسائر فادحة، ويملك الجمهور اليوم وعيا كبيرا لا يقاس معه وعي الأمس وإمكانياته، ما يستوجب الإقدام والمبادرة لحشد الجماهير من أجل تحرير الوطن، وعلى أسس مختلفة عن السابق، تلك الأسس التي جعلت الوطن يسقط قبل أن يحارب.

إن درس العراق بمقدار ما يعني العراق بالدرجة الأولى والأساسية، فإنه يعني المنطقة كلها، لأن لأميركا مخططا تريد تطبيقه لإحكام سيطرتها على المنطقة أولا، ثم مد هذه السيطرة إلى مناطق أخرى من العالم، إلا إذا بدأت المقاومة وأوقفت هذه المد البربري الذي يريد أن يغير العالم حسب مشيئته.

المصدر : الجزيرة