أين الخطأ؟.. التأثير الغربي واستجابة المسلمين

عرض/ إبراهيم غرايبة
صدر هذا الكتاب عن جامعة أكسفورد وحظي بإقبال كبير ربما بسبب تداعيات أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، ولأن مؤلفه هو المستشرق المشهور في الغرب برنارد لويس. ويوظف الكتاب المعالجة التاريخية للصراع بين العالم الإسلامي والغربي في فهم العلاقة الحاضرة.

undefined

-اسم الكتاب: أين الخطأ؟.. التأثير الغربي واستجابة المسلمين
–المؤلف: برنارد لويس
-ترجمة:
محمد عناني
-تقديم ودراسة: رؤوف عباس
-عدد الصفحات: 269
-الطبعة: الأولى 2003
الناشر: دار سطور، القاهرة

ولد المؤلف برنارد لويس في لندن عام 1916 لأسرة يهودية، وقد أتم دراسة التاريخ الشرقي من جامعة لندن عام 1939، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين، وعمل بالتدريس في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن.

ثم التحق بخدمة المخابرات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وبقي يعمل فيها حتى عام 1974 ليلتحق بالتدريس في جامعة برنستون بالولايات المتحدة. ويصفه رؤوف عباس في مقدمته بأنه معروف بصهيونيته وعدائه للإسلام.


تخلى الغربيون في غمار العلمانية عن الإيمان بالله، ثم عادوا للإيمان به مصدرا لسيادة الناس ومعبودا للأمة، وسادت هذه الفكرة في العالم الإسلامي فتحولت الدول الإسلامية إلى علمانية

أين الخطأ؟
هذا السؤال الذي يعتقد لويس أن المسلمين دأبوا على طرحه منذ مدة طويلة عندما أدركوا تفوق الغرب عليهم، فهو سؤال يشي بالمرارة والقلق وإحساس متزايد وعميق بالغضب.

فقد كان المسار الإسلامي آخذا بالصعود والتفوق حتى استطاع المسلمون فتح مدينة القسطنطينية عام 1453 عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم تواصل زحفهم حتى كادوا يدخلون فيينا عاصمة النمسا عام 1683 متوجين بذلك مسيرة ألف سنة من الفتوحات والانتصارات بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي وتواصلت في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وصاحب تلك الحملات العسكرية تجارة واسعة ومتنوعة وممتدة في القارات الثلاث، وحركة ثقافية وعلمية وفنية.

ثم بدأ المد الإسلامي بالتوقف والانحسار فتوقفت الانتصارات، وبدأ الانحسار من أنحاء مختلفة من العالم، بدأ بالأندلس في نهاية القرن الخامس عشر وتوقفت حركة الترجمة الكبرى وتوقف الإنتاج العلمي والمعرفي، وبدأ الأوروبيون يحرزون تقدما ملموسا في فنون الحضارة. وبقدوم ما يسمى "المعرفة الجديدة" بدؤوا يتقدمون بسرعة، وسبقوا التراث العلمي والتكنولوجي ثم الثقافي للعالم الإسلامي بأشواط طويلة.

كان السلطان العثماني في أوائل القرن السادس عشر الميلادي تشغله المنافسة الكبرى مع المماليك في مصر والشام وإيران الصفوية، واستطاع السلطان سليم الأول أن ينهي دولة المماليك ويفتح البلاد العربية كلها. ولكن الصراع العثماني-الصفوي استمر حتى القرن التاسع عشر، واستهلك هذا الصراع المسلمين وألهاهم عما يدور في أوروبا غير بعيد عنهم من تقدم وتطور.

وعندما استطاع فاسكو دي غاما الوصول بحرا من البرتغال إلى رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر، فتح طريقا بحريا بين أوروبا وآسيا متجاوزا المجال الإستراتيجي للطريق السابق الذي كان يسيطر عليه المسلمون. وبدأ البرتغال والإسبان والهولنديون ينشئون قواعد لهم في جنوب شرق آسيا وفي الموانئ والسواحل المطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي لتأمين طرق التجارة والتحكم فيها.

وكانت القارة الأميركية مصدرا للموارد والهيمنة التي لا تصلها القوة الإسلامية العثمانية، ومكنت الأراضي الخصبة والمعادن التي امتلكها الأوروبيون من الاستغناء عن كثير من المنتوجات القادمة من الشرق الأوسط وآسيا، ونشطت المهارات التجارية والحرفية.

كانت هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683 بداية تحول وانكسار، وتبعتها هزائم متوالية ومتواصلة في مالطة عام 1684 وفي المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسود.

التحديث والمساواة الاجتماعية
الإسلام دين المساواة، فقد حرر الناس من الإقطاع الفارسي والطائفية الهندية والأرستقراطية الغربية، فالإسلام يرفض التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو الثراء أو المكانة الاجتماعية.

ولكن ذلك كله -في رأي المؤلف- لم يمنع نشوء طبقة أرستقراطية إسلامية جديدة، واستمرار التمييز ضد غير المسلمين وضد المرأة في المجتمعات الإسلامية واستمرار الرق.

وتعرف المسلمون للمرة الأولى -حسب المؤلف- على العلمانية بعد الثورة الفرنسية، (ولكن المؤلف لا يدرك تماما أن الإسلام لا يخضع الحياة للدين بالشكل الذي عرفته الدولة الدينية في الغرب في فترة من فترات سيطرة الكنيسة، وفي الوقت نفسه تختلف علمانيته أو مدنيته عن العلمانيات الغربية الحديثة).

وهكذا تطلع بعض المسلمين إلى فرنسا آملين أن يجدوا في هذه الأفكار محركات تدير عجلة العلوم والتقدم وقد برئت من العوائق المسيحية. وأصبحت هذه الأفكار تمثل مرجعية لحركات التحديث والإصلاح في العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو ما دعا إليه كثير من المصلحين والمفكرين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.

وقد تخلى الغربيون في غمار العلمانية عن الإيمان بالله، ثم عادوا للإيمان به مصدرا لسيادة الناس ومعبودا للأمة، وسادت هذه الفكرة في العالم الإسلامي، وكان المثقفون الذين حكموا العالم الإسلامي وتولوا المناهج والإدارة فيه ممن سار في طريق الغرب، وتحولت الدول الإسلامية إلى علمانية.

ولكن العلمانية لم تكن مبدأ رسميا إلا في تركيا والجمهوريات الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، ولكن دولا كثيرة إن لم تكن جميع الدول الإسلامية تطبق العلمانية في شؤون كثيرة بل في أغلب شؤونها.

وبدأت في الفترة الأخيرة موجة إسلامية أصولية تدعو إلى نبذ العلمانية باعتبار أن الإسلام مختلف عن المسيحية، فالدولة الإسلامية ليست دينية إلا بالقدر الذي تعتبر فيه بريطانيا ملكية، ومشكلة النزاع بين الدين والدولة مشكلة مسيحية أوروبية بحتة ولا تنطبق على العالم الإسلامي، ولكن هذا لا يمنع في رأي المؤلف من القول إنه مرض أصيب به المسلمون واليهود -يقصد العلمانية- ويحتاجون إلى علاج مسيحي.


عندما يظهر تأثير الأجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما مثل المؤسسات والمساجد، فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافيا قد اهتزت

الحداثة الغربية
كان المسلمون يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر كان الغرب قد سبقهم بأربعمائة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية.

عرف الشرق الساعة الميكانيكية التي يصنعها الغرب لقياس الزمن بدقة تتفوق على الوسائل التي كانت تستخدم في الشرق، كان ذلك في القرن السادس عشر الميلادي، ثم المطبعة والنظارات الطبية والتلسكوب والآلات الموسيقية ذات المفاتيح مثل البيانو.

وربما يكون التاريخ الحديث للشرق الأوسط بدأ عام 1798 مع الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، حيث أخضعت للمرة الأولى إحدى الدول في قلب ديار الإسلام لحكم دولة أجنبية، وبدأت مظاهر التغير الثقافي في الشرق.

وبدأ الحكام في الآستانة والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، فقد استقدم الخبراء العسكريون الغربيون في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية "الإفرنجية".

وبدأ تذوق الموسيقى الغربية والفنون الغربية أيضا، وانتشر اللباس الغربي وأنظمة العمارة في البيوت والقصور والمباني العامة، حتى المساجد صارت تبنى على الطراز المعماري الغربي.

وعندما يظهر تأثير أجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما مثل المؤسسات والمساجد، فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافيا قد اهتزت.

كان التأثير البصري الغربي طاغيا، بدأ في اللوحات الفنية والصور الشمسية ثم في اللباس، وكان لذلك تأثير على الهوية والمعتقدات، فالصور والتماثيل التي كانت محرمة في الثقافة الإسلامية صارت شائعة في القصور والمطبوعات والنقد وطوابع البريد.

وبدأ التغيير في الجيوش التي صارت جميعها ترتدي أزياء غربية، ثم امتد تغيير اللباس إلى المجتمعات، وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خيارا ثقافيا آخر، وقد تكون مقاومة أو قبول تغيير الملابس والذي ظل موضع جدال في الشرق أكثر من قرنين تستند إلى هذه الدلالة.

وبدأت الترجمة تشهد مسارا مختلفا عما عهدته طوال القرون الماضية، فقد بدأت ترجمة الروايات والمسرحيات، واتجهت الترجمة نحو اللغات الغربية، وانحسرت اللغة الفارسية والتركية من الوسط العربي، كما انحسرت العربية من الأوساط الإيرانية والتركية، واقتبست بلدان الشرق الأوسط الأنواع الأدبية الأوروبية مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية واستوعبت في الشرق استيعابا كاملا. وزادت أعداد الكتب الأصيلة من هذه الأنواع التي تصدر في هذه البلدان، بل لقد أصبحت هذه هي الأنواع الأدبية المعتادة للتعبير، وامتد التأثير إلى النسيج اللغوي نفسه، حتى أن الكتابات العربية الحديثة والأصيلة في الشرق الأوسط وبخاصة في الصحف تبدو وكأنها ترجمة حرفية من الإنجليزية والفرنسية.

وامتد التأثير الثقافي إلى التسلية والترفيه، فانتشرت ألعاب الورق، والألعاب الرياضية البدنية، مثل كرة القدم والسلة والبولو.


يعتقد المراقب الغربي أن متاعب العالم الإسلامي مردها إلى غياب الحرية: حرية التفكير وحرية الاختيار، وحرية الاقتصاد، وحرية المرأة

العالم الإسلامي اليوم
أصبح العالم الإسلامي اليوم إذا قورن بالعالم المسيحي الذي دأب على منافسته طوال ألف عام فقيرا ضعيفا وجاهلا، وتبدى للجميع في القرنين التاسع عشر والعشرين تفوق الغرب وهيمنته، فقد غزي العالم الإسلامي في كل جوانب حياته العامة والخاصة.

وكان دعاة الإصلاح والتحديث يركزون جهودهم في ثلاثة مجالات رئيسية هي المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فقد أدى السعي إلى النصر بجيوش محدثة إلى سلسلة من الهزائم المهينة، وأدى السعي إلى الرخاء من طريق التنمية الحديثة إلى الفقر والفساد والاعتماد على المساعدات الخارجية.

ولم تساعد الجيوش ولا المدارس والجامعات والمصانع والبرلمانات دول الشرق ومجتمعاتها، ولا أوقفت الفجوة بين العالم الإسلامي وبين الغرب، وكل ما عملته أنها ساعدت بعض النخب.

ولم يقتصر الأمر على أن يجد المسلمون أنفسهم ضعفاء وفقراء بعد قرون من الثراء والقوة، فقد أتى القرن العشرون بمزيد من الإذلال والهزائم، وتقدمت عليهم دول أخرى كانت أضعف وأفقر مثل اليابان ودول شرق آسيا.

كانت إجابة السؤال أين الخلل؟ متنوعة ومختلفة، فقد حُمّل المغول والأتراك والاستعمار الغربي واليهود مسؤولية التخلف والضعف، وأعادها البعض إلى أسباب ثقافية وفكرية تعود إلى التخلي عن الثقافة الإسلامية والركض وراء الثقافة الغربية.

ولكن أعدادا متزايدة من أبناء الشرق الأوسط تتحول إلى موقف النقد الذاتي، فكان السؤال الأساسي: أين الخطأ؟ وكيف نصحح؟

إن المراقب الغربي يعتقد أن متاعب العالم الإسلامي مردها إلى غياب الحرية: حرية التفكير وحرية الاختيار، وحرية الاقتصاد، وحرية المرأة.

وأيا كان السبب وأيا كانت الإجابة فإن منطقة الشرق الأوسط تبدو في طريقها الحالي وكأنها مقدمة على تفجير نفسها والعالم كله معها أيضا، وكأنها تستعير صورة العمليات الفدائية التي تجري في فلسطين، وقد يؤدي هذا إلى احتلال أوروبي جديد، فأوروبا تبدو وكأنها تعود إلى السياسات القديمة، وربما تستعيد روسيا نهضتها وتجتاح المنطقة، وربما تنهض دولة عظمى جديدة تملأ الفراغ.

وإذا استطاعت شعوب الشرق الأوسط أن تطرح إحساسها بالظلم وتسوي خلافاتها وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فسوف تستطيع من جديد أن تعيد الشرق الأوسط إلى ما كان عليه في الأزمان الغابرة من تفوق وازدهار ومركز رئيسي للحضارة.. والاختيار بأيدي هذه الشعوب.

المصدر : غير معروف