تداعيات احتلال العراق على دول الجوار

undefined

د. خالد المعيني

يتخذ الصراع الدائر في العراق منذ احتلاله قبل خمس سنوات شكل مصفوفة من عدة مستويات محلية وإقليمية ودولية. فمن النادر في تاريخ العلاقات الدولية أن يشكل صراع ما، بؤرة لتداخل عدة مستويات من الصراع في آن واحد من حيث المدى والعنف كتلك التي تحصل حالياً في العراق.

العراق وتأثيره في جواره
تركيا.. ملفا الأكراد وكركوك
إيران والإستراتيجية المزدوجة
دول الجوار العربية وهشاشة المواقف

العراق وتأثيره في جواره

إن ما سيؤول الوضع إليه في العراق لن يحدد نمط الحكم الذي سيسود أو حتى مستقبله كدولة، بل سيصيغ شكل المنطقة برمتها ويترك أثرا فاعلاً لا على التوازنات الإقليمية السائدة فحسب ولكنه سيمثل نقطة ومفصلاً محورياً حاسماً في تحول منحنى وتراتبية القوى في النظام السياسي الدولي برمته.

وتعد المخرجات الناجمة عن أحداث وتداعيات العراق بمثابة مدخلات اضطرارية للتأثير والتأثر لدول الجوار الإسلامية والعربية الشقيقة المحيطة التي تسعى من خلال الساحة العراقية إلى تحسين شروط تعاملها سلباً أو إيجابا مع الدولة العظمى المحتلة والمتورطة في العراق إما لضمان مصالحها أو لحماية أمنها القومي.

شكّل العراق على الدوام بثرواته وموقعه الجيوبولتيكي المتميز مسرحا لأطماع الشعوب المحيطة به التي تسكن الهضاب والجبال والصحاري الجرداء، فإيران التي كانت عبر التاريخ بلاد عيلام وفارس لم تنفك يوماً تستطيع أن تمنع نفسها من النظر إلى العراق.

وأدى العراق عبر تاريخه وظيفتين الأولى كان فيها حجر الزاوية في توازن المنطقة برمتها فكلما كان قوياً توازنت المنطقة ما بين شرق جبال زاكروس وغربها وكلما كان ضعيفاً أصبح منطقة تخلخل في الضغط وتنافست تركيا وإيران أيهما يكون العراق مجاله الحيوي، الوظيفة الثانية أن العراق كان بمثابة مصد يحمي الجناح الشرقي للوطن العربي من النفوذ الفارسي.

تركيا.. ملفا الأكراد وكركوك

"
هناك ملفان يمسان جوهر الأمن القومي التركي وشكلا خلفية تدخلها العسكري الواسع شمال العراق وهما ملفا الأكراد ومدينة كركوك
"

تقلصت زاوية النظر التركية من حيث النظرة بخصوص حقوقها شمال العراق وتحديدا الموصل والتي سبق وأن اعتبرتها ضمن اتفاقية خط الهدنة الذي وقعته مع الاحتلال البريطاني نهاية الحرب العالمية الأولى مطلع القرن الماضي.

وفي الوقت الذي لا يمكن القول معه إن لتركيا أطماعا في العراق، ولكن بالتأكيد لا يمكن إغفال وجود ملفين يعدان الأخطر ويمسان جوهر الأمن القومي التركي تنظر من خلالهما إلى الشأن العراقي، وشكلا خلفية التدخل العسكري التركي الواسع شمال العراق مطلع سنة 2008 لإعطاء رسالة واضحة بخصوص هذين الملفين لجميع الأطراف الرئيسية والثانوية في العراق:

  • الملف الأول: يخص الأكراد، فتركيا تنظر بحذر وريبة شديدين إزاء تعاظم استقلاليتهم في العراق، وما يمثله ذلك من تهديد مباشر لمستقبل تركيا الموحدة. فعدد الأكراد في تركيا يتجاوز عشرين مليونا, لذا فإنها لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه النزعة الانفصالية للأكراد بالعراق والذي لا يبلغ تعدادهم فيه أكثر من 3.5 ملايين.

    فبعد الشراكة مع العرب كما ورد في نص أول دستور للجمهورية العراقية قبل نصف قرن، تطورت حقوق الأكراد إلى حكم ذاتي قبل أكثر من ربع قرن لتحظى حاليا الأحزاب والمليشيات الكردية نتيجة تعاونها مع الاحتلال الأمريكي بشبه انفصال بشمال العراق من خلال مشروع الفيدرالية.

    وهذا المشروع في حقيقة نصوصه، كما وردت في أبواب ومواد الدستور الحالي أقرب إلى الكونفدرالية، مع تهديد مستمر وعلني من قادة الأحزاب الكردية المهيمنة شمال العراق بإعلان الانفصال وإعلان دوله مستقلة، ناهيك عن توفير ملاذ آمن وتسليح هذه الأحزاب لمقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي ذي التوجهات الانفصالية والذي تعده الولايات المتحدة منظمة إرهابية.

    ويشكل هذا الأمر يشكل سكينا في خاصرة الأمن القومي التركي، وتهديدا مستمرا لمستقبل تركيا الموحدة.

  • الملف الثاني: ويحظى بأهمية استثنائية لدى الأتراك وهو قضية كركوك ذات الأغلبية التركمانية والتي تعرضت منذ الاحتلال الأميركي إلى عملية (تكريد). وقد كرس الدستور ذلك الأمر من خلال نص يمهد لضمها إلى إقليم كردستان.

    وسيعطي ذلك أرجحية جغرافية واقتصادية، كما سيقوي دعائم الانفصال حيث تمثل كركوك عصب الطاقة بالنسبة للمنطقة الشمالية، ففيها 12% من خزين العراق النفطي.

إيران والإستراتيجية المزدوجة

"
فشلت أميركا في العراق في حين نجحت إيران في أن تتحول من لاعب ثانوي بداية الاحتلال إلى لاعب رئيسي عشية السنة السادسة للاحتلال
"

تحركت إيران طيلة المرحلة الأولى من الصراع بإستراتيجية مزدوجة. وكعادتها في اقتناص الفرص, سعت كلاعب ثانوي إلى تحويل واستثمار الوجود العسكري الأميركي من مصدر تهديد لها إلى عامل قوة.

والعراق الذي طالما شكل حاجزاً على امتداد حدوده الطويلة مع إيران والبالغة 1350 كلم أمام توسع مطامعها الجغرافية ومانعا لمحاولتها تصدير (الثورة الإسلامية) إلى دول الخليج الهشة, مثل على الدوام حجراً لتوازن القوى في المنطقة.

وقد قدمت الولايات المتحدة الأميركية العراقَ بسبب سياستها وتخبطها وحمقها، إلى النفوذ الإيراني على طبق من ذهب.

وقد استعدت إيران، وهي تعرف حقيقة ما ستؤول إليه الأحداث في العراق، بتهيئة قادة مليشيات وأحزاب ورجال دين تحت واجهات مختلفة للدخول والتسلل للأراضي العراقية.

ثم تعاظم النشاط والنفوذ الإيراني، وتغلغل في مراكز القرار العسكري والحكومي من خلال الحركات والمنظمات والمليشيات القادمة من إيران.

وكانت أهم هذه الحركات والمنظمات: المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقادته ذوي الولاء الكامل والمحسوم لإيران. منظمة بدر, حزب الدعوة الإسلامي، حزب الدعوة-تنظيم العراق, حزب الله-العراق, حركة حزب الله، منظمة العمل الإسلامي، حركة مجاهدي الثورة الإسلامية، حركة سيد الشهداء، حركة 15 شعبان، منظمة الطليعة الإسلامية، مؤسسة شهيد المحراب، حركة بقية الله، حركة ثأر الله، حزب الفضيلة، حزب الوفاق الإسلامي، والتحقت أخيرا تيارات كبيرة منشقة عن التيار الصدري بعد أن نجحت إيران من خلال مخابراتها وفيلق بدر في اختراقه.

يتولى آلاف الضباط من الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية، الإشراف المباشر على كافة نشاطات الأحزاب والحركات أعلاه، حيث يوجد هؤلاء الضباط في مقرات هذه الأحزاب والحركات بالمحافظات الجنوبية والوسطى والفرات الأوسط وفي مناطق بغداد وديالى, يقومون بعمليات التدريب العسكري والتدريب الاستخباراتي والتمويل المادي ووضع الخطط لها، ومتابعة تنفيذ هذه الخطط, وإدخال كميات كبيرة من الأسلحة واعتدتها.

كما أنها تقوم بالتنسيق ومساعدة عناصر الأحزاب والحركات أعلاه وإيصالها إلى مقراتها ليجري لاحقا إخفاؤها وتخزينها في الأماكن والمستودعات المخصصة لها، وذلك عن طريق المحافظات المحادة لإيران كديالى والكوت والعمارة والأهوار والبصرة وشط العرب.

وقد جرى هذا التعاظم في النفوذ تحت أنظار الولايات المتحدة، بل إنها ساهمت في تقوية العناصر والحركات والأحزاب القادمة من إيران. وكانت الحدود مشرعة لتدفق هذه الحركات والعناصر والأحزاب ما دامت هذه الأخيرة تخدمها وتساعدها في مشروعها للسيطرة على العراق وتكريس احتلالها وتقسيمه.

وقد أتاح هذا الوضع لهذه الأحزاب فرصة ذهبية لدفع عناصرها واستخباراتها في كافة مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والتعليمية والسياسية، واحتلالهم المناصب المهمة والحساسة التي تمكنهم من السيطرة على مقدرات البلد وقراره السياسي.

وهذا الأمر جعل من السفير الإيراني، وهو أحد قادة الحرس الثوري ويعمل في سفارته خمسون موظفاً مواطنا ويحضر معظم الاجتماعات الأمنية للحكومة العراقية، ثاني أخطر سفير بالعراق بعد سفير واشنطن التي اضطرت أخيرا إلى الاعتراف به كلاعب رئيسي تفاوضت معه أكثر من مرة من خلال مؤتمرات رسمية في بغداد، كان أولها في مارس/ آذار 2007، وجعلت من الإيراني محمود أحمدي نجاد الرئيس الثالث الذي يزور العراق بعد الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني.

في الوقت الذي توصف فيه سياسة الولايات المتحدة في العراق بأنها فاشلة وهي تحتل العراق فعلاً, يمكن وصف وضع إيران في العراق بأنها نجحت في أن تتحول من لعب دور ثانوي بداية الاحتلال إلى لاعب رئيسي عشية السنة السادسة للاحتلال، وفي تحقيق أهدافها الإستراتيجية وتحديها للولايات المتحدة وابتزازها من خلال المساهمة في توريطها بمزيد من الخسائر المادية والبشرية دون أن تنزف قطرة دم، والحقيقة أن ذلك يعد قمة النجاح والانتصار من الناحية الإستراتيجية.

تمكنت إيران من إدارة صفحات الصراع مع خصومها داخل العراق من خلال أطراف عراقية حكومية وشبه حكومية (مليشيات) ذات ولاء مزدوج، فهي تدعي الولاء بل والعمالة الظاهرية للولايات المتحدة ولكنها بولاء حقيقي وجوهري -طائفياً وعسكرياً- للحرس الثوري والقيادة الإيرانية.

كما تمكنت من كسب الوقت للمضي قدماً في بناء ترسانتها النووية وتخصيب اليورانيوم وزيادة مدى أجيال جديدة من صواريخها البالستية ( شهاب1, 2, 3, 4) والتي أصبح مداها المعلن ألفي كيلومتر، والتي لا تطال عمق إسرائيل فقط بل مناطق أخرى ليست بالحسبان إذا ما ترك الحبل على الغارب لإيران ومدت نفوذها فعلاً باتجاه عصب الطاقة العالمي في العراق ودول الخليج الهشة مستخدمة دالتين هما بمثابة مجالها الحيوي مستقبلا: استغلال (الشيعة والنفط).

أيقنت إيران أنه بات من المستحيل على الولايات المتحدة أن تتورط عسكرياً وتهاجم إيران وقواتها منتشرة بالعراق فتقع في مستنقع ثالث بعد أفغانستان والعراق, وطهران ماضية بقوة في تعميق آلام الولايات المتحدة بالعراق فقد شكلت ممراً رئيسيا للسلاح للتنظيمات المتطرفة ليس في أفغانستان بل في العراق، وهناك ما يؤكد أن إيران تدعم بالمال والسلاح ليس فقط المليشيات العائدة لها بل أجنحة من تنظيم القاعدة.

وقد مارست طهران دوراً براغماتياً في تعاملها مع الشأن العراقي فهي تعلن أنها ضد قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق، لكنها دعمت بقوة كافة مؤسسات الاحتلال السياسية والعسكرية والحكومية اعتبارا من مجلس الحكم والدستور إلى حكومة المالكي، وأبدت استعدادها لتدريب قوات الجيش والشرطة، ثم توج الرئيس الإيراني ذلك بعرضه قيام بلاده بملء الفراغ في العراق في حالة فكرت الولايات المتحدة بالانسحاب وقام بزيارة فعليا للعراق، ذلك بعد أن أدرك تغلغل نفوذ عناصره في جسد المؤسسات الحكومية والعسكرية والسياسية.

تدعم إيران تقسيم العراق بصورة واضحة من خلال تبني مشروع الفدرالية من قبل التنظيمات العائدة لها والتي تحكم العراق حاليا بالتنسيق مع الأحزاب الكردية ذات التوجهات الانفصالية وبقية تنظيماتها ومليشياتها التي باتت تمول نفسها بنفسها من نفط الجنوب الذي تسرق منه يومياً ما يقارب ثلاثمائة ألف برميل/ يومياً، وعلى ضوء إقرار الفدرالية بالدستور العراقي الذي يعطي الحق لأي محافظة إقامة إقليم ذي سيادة وبالتالي يأتي إقامة إقليم وسط وجنوب العراق ذات الأغلبية الشيعية الذي يطالب فيه بشدة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وفيلق بدر وهو منظمة تم تأسيسها في إيران لا تزال ترتبط ماليا وسياسيا وعسكريا بفيلق القدس للحرس الثوري الإيراني، كخطوة أولى وتدريجية في الإستراتيجية الإيرانية المتوسطة المدى لإقامة دولة شيعية وسط وجنوب العراق على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران.

دول الجوار العربية وهشاشة المواقف

"
تحاول الدول العربية الآن ارتكاب خطأ فادح من خلال إعادة إنتاج عناصر الصراع بالعراق على أساس طائفي فيتحول البلد إلى ساحة صراع طائفي بين إيران ودول الاعتدال العربي
"

أدى انهيار العراق بهذه الطريقة التي أزالت أية مقومات للدولة والنظام إلى انكشاف الأنظمة العربية الهشة، وخاصة دول الجوار منها وهي التي ساهمت بشكل أو بآخر وساعدت في انهيار النظام السياسي بالعراق والذي كان في أسوا حالاته بمثابة جدار عازل يحميهم من النفوذ الإيراني.

وبعد تزايد وتعاظم النفوذ الإيراني واستقوائه داخل الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص بما ينذر بأسوأ العواقب التي تعجز عن مواجهتها مستقبلا، انتبهت الأنظمة الرسمية العربية إلى فداحة خطئها إزاء الوضع القائم في العراق.

وتحاول الدول العربية الآن ارتكاب خطأ أفدح من السابق من خلال إعادة إنتاج عناصر الصراع بالعراق على أساس طائفي بحيث يتحول البلد إلى ساحة لصراع جديد قائم على أساس خطوط تقسيم طائفية ليمثل صراعاً إيرانياً ضد ما يسمى دول الاعتدال العربي, التي تتسرع حالياً في الاعتراف بالعملية السياسية وفتح سفارات لها داخل العراق.
_______________
باحث بالمركز العراقي للدراسات الإستراتيجية

المصدر : الجزيرة