الجمهور العربي والمسلسلات المدبلجة.. العوامل الاجتماعية

تصميم العوامل الاجتماعية والنفسية التي تدفع المشاهد العربي إلى متابعة المسلسلات المدبلجة

 

 
 
يمثل اهتمام الجمهور العربي بالمسلسلات الأجنبية المدبلجة ظاهرة اجتماعية دون شك، لكن لهذه الظاهرة عوامل وأسباب عديدة أسهمت كليا أو جزئيا في نشوء الظاهرة وتعميقها حتى بلغت في بعض الأحيان والأماكن حدا مرَضيا.
 
تمر المجتمعات العربية بحالة مضطربة على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى السياسية، ويحتاج المواطن العربي فيها إلى وجود البطل، هذا البطل الذي يفتقده في المجتمع وفي السياسة ويفتش عنه ولا يجده، وما من إرهاصات تبشر به، وإذا ما وجده أو تعرف عليه فإنه لا يؤمن به، لأنه لم يحرز أيا من الانتصارات حتى يكون قدوة له.

والاقتداء بالآخر لا بد له من بداية يبدأ منها ومن مصدر يصدر عنه، ومن مبتكر أو مجتهد يقتدي به الناس ويتبعون آثاره، كما يقول تارد، إلا أن الإنسان العربي وجد "بطله" متهما في العديد من الهزائم السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وللتعويض عن هذه الهزائم الحالية التي يمر بها مجتمعنا العربي، نجد أن الكثير من شركات الإنتاج الفنية تستحضر -وبأعمال درامية تلفزيونية- أمجاد البطولات العربية السالفة وأبطالها الميامين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي وخالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وغيرهم.

ولكون التلفزيون من أهم وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر، فإن له الأثر الأكبر في نشر الثقافة والمعرفة ودفع الإنسان المعاصر من إنسان يقرأ إلى إنسان عليه أن أن يسمع ويشاهد، وهو أمر يغدو فيه هذا الإنسان بين فكي رحى الصورة الشريرة ورحى الصورة الخيرة، إذ لا فكاك له منها، كما لا يمكنه الاستغناء عنها.

"
كيف للمواطن العربي أن ينجو من التقليد؟ خاصة أنه الحلقة الأضعف، وهو مستهلك وليس منتجا أو مخترعا
"

شعور بالنقص


والمشكلة أن الجمهور العربي ربما يشعر بالنقص والحرمان حينما يشاهد الصور التلفزيونية للجمهور الأجنبي وما عنده حتى بغياب البطل، وفي حال كهذه يفتش عن مثل ما شاهد والتعويض عما فقد، ومن حيث يدري أولا يدري فإنه يجد نفسه مقلدا للجمهور الأجنبي، خاصة أن الغرب له اليد الطولى الآن فيما نشاهده من الفنون البصرية والمرئية، ناهيك عن إبداعاته التقنية في حقل الإعلام.

وكما قال ابن خلدون فإن "الضعيف يقلد القوي"، وأيضا يقول تارد "إن الناس مسوقون بطبعهم للاقتداء بمن هم أعلى منهم من الطبقات العليا"، وهذا الأمر لا ينسحب فقط على المهرجانات والبرامج والمسلسلات التلفزيونية، وإنما على اللباس والمفردات والسلوك اليومي.

فالشباب يحاول تقمص أدوار الشباب الأجنبي والتشبه بهم، ويتم قبول أنماط سلوكهم بحكم رابطة التعويض مع الشخص المقًلد دون أن يكون لذلك أساس منطقي ودون أن يكون مبنيا على تفكير عقلاني.

وبعدما باتت الدراما التلفزيونية العربية مكبلة بشبكة من الممنوعات والمحرمات، نجد المشاهد العربي مشدودا إلى شاشات الغرب المنفتحة والحرة من كل قيد ومحرم، الأمر الذي تغدو فيه الحاجة والطلب لمثل هذه المسلسلات التي تجد صدى لها في نفسه وعقله، حيث يغدو متماهيا مع صورة أبطال هذه الشاشات وفرسان الحب والحرب والانتصارات والقوة والتميز.

التأثير الديني
معلوم أن المجتمع العربي يتكون من عدة أديان وطوائف ومذاهب، وأن حجم الحرية المعطاة لأبنائه مقيدة إلى حد ما عند بعض الطوائف الدينية، وشديدة قاسية عند بعضها الآخر، وذلك حسب التنشئة الاجتماعية.

"
يوجد في المسلسلات قصة حب معاصرة متمردة على الأطر الاجتماعية والدينية بشكل أو بآخر، وتتماهى مع ما يعتمل في نفس الكثير من المشاهدين
"

وهذا يقود إلى أن ما هو معطى للشباب العربي بشكل عام إن هو إلا جملة من المحرمات والتنبيهات وحزم من المنهيات، فيجد هؤلاء الشباب أنفسهم مقيدين ومحاصرين، ما يجعل هذه القضايا مادة للبحث والمقارنة بينهم وبين المجتمع الأجنبي.

وسيجدون أنفسهم أيضا بين سعيهم للعيش حياة عصرية تعبر عن طموحاتهم، وبين شقي رحى الشارع وما به من تناقضات شتى، والذي يفرض عليهم في الوقت ذاته أنهم" اتبعوا وقلدوا".

إن الشباب العربي يبحث عن أماكن يستطيع فيها الترويح عن نفسه وإيجاد مساحة لحريته، كالمقاهي والسهر خارج البيت والسفر إلى خارج المدن، والبحث عن أقنية تلبي رغباته، وعندها يجد المحطات التلفزيونية أحد أهم هذه الأقنية، وخاصة بالنسبة إلى هؤلاء الذين ليس لديهم القدرة المادية على السفر إلى أي مكان داخل بلادهم أو خارجها.

وفي المسلسلات قصة حب معاصرة متمردة على الأطر الاجتماعية والدينية بشكل أو بآخر، وتتماهى مع ما يعتمل في نفس المشاهد، فكل ممنوع مرغوب وكل أمر غير مألوف جذاب.




المواطن العربي في معظم الدول العربية واقع بين السندان والمطرقة، سندان الأسرة والتنشئة الاجتماعية، ومطرقة الدين والسياسة، فالشباب بدءا من مرحلة التعليم الثانوي ومن ثم الجامعي يبحث عن وسيلة تمكنه من أن يعبر عن نفسه سياسيا.

فالمنع من الانتساب إلى الأحزاب السياسية التي لا ترضى عنها السلطة الحاكمة أمر قائم، والانتساب إلى الحزب الذي ترضى عنه أمر ميسور، إلا أنه قد لا يتوافق مع طموحاتهم وآرائهم.

أما وسائل الإعلام وعلى رأسها الصحافة المكتوبة فهي في جلها صحافة حكومية موجهة أيدولوجياً، ولن يجد جيل الشباب عبر هذه الأبواق الحكومية أي فرصة ممكنة للتعبير وبحرية عن نفسه سياسيا، كذلك الأمر فيما يتعلق بمحطات التلفزة الرسمية.

إن ما يشهده مجتمعنا العربي من تغيرات ديمغرافية واجتماعية واقتصادية وحتى سياسية كان وما يزال تأثيرها واسعا ومديدا وصارخا على الأسس المجتمعية وعلى المنظومة الثقافية والحضارية.. لابد أن يقود إلى تبدل القيم الاجتماعية السائدة بقيم اجتماعية مستجدة لم نكن نعرفها سابقا، وتنعكس هذه القيم على السلوك الاجتماعي بشكليه الإيجابي والسلبي.
 
خلل اقتصادي
تشير جل الأبحاث والدراسات الاقتصادية والتنموية إلى ارتفاع معدلات البطالة في الدول العربية، وإن اختلفت هذه المعدلات من بلد إلى آخر. وتدفع هذه البطالة إلى عدة أنواع من الهجرة، أهمها هجرة الأدمغة والاختصاصيين واليد العاملة الخبيرة، والأيدي السوداء التي تفتقد المهنة والخبرة والمعرفة.

ونشاهد كل يوم على شاشات التلفزة موت المئات من الشبان والمهاجرين من بلدانهم على شواطئ أوروبا، فنحن إذن أمام وضع اقتصادي مترد حيث فرص العمل فيه مفقودة وبنسب كبيرة، بطالة من صورها إما الموت أو الجريمة، فالشباب في وضع يائس، وقد فقد قسم كبير ممن هم موضوع بحثنا كل شيء حتى الأمل، ولم يبق أمامه إلا شاشات مخدرة لحاله ليجد نفسه مستلبا أمامها.

إن هؤلاء مادة جيدة لتقليد الغرب في الشكل والمظهر الخارجيين، ولعل المثال الجيد لذلك هو ما نشاهده في المهرجانات الغنائية التي تقام في الدول العربية، وكيف يقلد جمهورنا فيها جمهور الاحتفالات والمهرجانات الغنائية التي يشاهدها على شاشات المحطات الغربية.

 
الوطن العربي سوق مستهلك للمنتج الأجنبي، سواء على مستوى السلع الغذائية والألبسة أو على مستوى صناعة السينما والبرامج التلفزيونية والصناعات الحديثة، لذا فإن المواطن العربي شاء أم أبى لابد أن يستخدم المنتج الوافد، وأن يكون تابعا وطرفا للآخر، والأطراف تتبع عادة الرأس الذي هو صاحب رأس المال وصاحب الاختراع، وهو الذي يفرض الشروط أيضا.

ويمتاز المنتج الأجنبي بتقنية رفيعة المستوى في صناعة الصورة، ويختار الأماكن الجميلة والمنازل الفاخرة لتصوير أحداث مسلسلاته، كما يختار أبطال العمل وملابسهم، وكلها عناصر تضاف إلى جمال الصورة لتشد وتجذب المشاهد، وإن لم تتوفر في هذا المسلسل أو ذاك عناصر التشويق في القصة أو الدراما، ولا يقل المنتج التركي عن غيره من الإنتاج الأجنبي في هذه الاختيارات.

ولا يستطيع المنتج التركي أيضا إلا أن ينتج مسلسلاته ضمن أطر سياسة دولته العلمانية، وبما يتوافق مع النظام الرسمي التركي، وإن كان السلوك الاجتماعي الذي تبين لنا في الخط الدرامي لأبطال وشخصيات هذا المنتج ينافي طبيعة الحياة الاجتماعية والدينية التي يعيشها أبناء المجتمع التركي اليوم.

وتختلف مساحة الرقابة العربية ونوعيتها على المصنفات الفنية من دولة إلى أخرى، كما يتجلى هذا الاختلاف بشكل واضح بين بعض شاشات القطاع الخاص التي لا يهمها سوى الربح المادي، ولا تشكل لديها القيم الاجتماعية العربية الأصيلة شيئا، وبعض شاشات القطاع العام الرسمي التي تحرص على منهجية محددة في الأداء، لذلك نرى المشاهد العربي سرعان ما يمل منها ويبحث عن محطة تلبي رغباته المختلفة.

 
التطور والتغير


يعيش المواطن العربي في الوقت الراهن مرحلة قلقة نتيجة انهيار العقائد الدينية والاجتماعية والسياسية التي كانت المدنيات تستند إليها من جهة، وظهور أحوال جديدة في المعيشة والفكر نشأت عن مبتكرات العلوم والثورة الصناعية من جهة أخرى.

"
لم يبق أمام الشباب العربي الذي يعاني البطالة سوى شاشات مخدرة لحاله، ليجد نفسه مستلبا لما تقدمه
"

لذلك نجد أن هناك ارتقاء واختلافا في جوهر ونوعية الذائقة الفنية، حيث إن عمليات التغير ترتبط بخصوصيات الأفراد الخاضعة للتأثير، والمرتبطة بمستوى الوعي الاجتماعي والشروط الموضوعية.

والمواطن العربي اليوم أمام ذائقة فنية ووسائل إعلام حديثة، إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية المعروفة، وهو أيضا أمام ثورة صناعية أوجدت أدوات للتواصل لم تكن توفر للأجيال السابقة ما توفره اليوم للأجيال الراهنة.

ومن يقيم في أميركا يرى ماذا يلبس ويأكل آخرون في البحرين، والتواصل يفتح مع كل يوم آفاقا جديدة أمام الناس، فالعالم أمام عملية تلاقح حضاري وفكري وثقافي وسياسي.

وأينما كنت موجودا تستطيع مشاهدة الأفلام والحفلات، فكيف للمواطن العربي أن ينجو من التقليد؟ خاصة أنه الحلقة الأضعف، وأنه المستهلك وليس المنتج والمخترع، ومن هذا المنطلق دخلت العولمة الوافدة إلى مجتمعنا العربي، حيث تصدر إلينا الأبطال في كل شيء، في الصناعة والتقنية ووسائل الإعلام، وفي الأفلام والبرامج.

ويغدو البحث عن البطل ممكنا لدى المواطن العربي لأنه بحاجة إلى القدوة وإلى مثل أعلى يقتدي به في حياته اليومية، ويكون متنفسا لجملة الإحباطات التي تحيط به.
______________
المصدر : الجزيرة