قبل 3 آلاف عام حصل البريطانيون على نصف جيناتهم من فرنسا

عملية تحليل المادة الوراثية في هذه البقايا البشرية قوبلت لدى البعض بالاستهجان، خوفا من أن تؤدي إلى إثارة بعض المشاكل والنعرات

تقول الدراسات إنه قبل 4500 عام انتقل الرعاة الرحّل من سهول الحافة الشرقية لأوروبا إلى وسط القارة (غيتي إيميجز)

أظهرت دراسة معمقة لعينات قديمة من الحمض النووي قام بها فريق دولي أن موجة هجرة كبرى من فرنسا ربما حملت معها أيضا أولى اللغات الكلتية (Celtic languages) عبرت بحر المانش نحو بريطانيا قبل 3 آلاف عام.

أحد أعقد الألغاز

ويقول الكاتب فرانز ليدز في هذا التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) الأميركية إن مجلة نيتشر (Nature) العلمية كانت قد أعلنت قبل 3 سنوات عن نجاح جهود بحثية مشتركة بين عدة دول (قادها ديفيد رايش عالم الجينات والوراثة بجامعة هارفارد) مكنت من إماطة اللثام عن واحد من أعقد الألغاز في حقبة ما قبل التاريخ في بريطانيا، إذ إن الباحثين تمكنوا من خلال تحليل بقايا الحمض النووي في رفات 400 شخص أوروبي من إثبات أنه قبل 4500 عام انتقل الرعاة الرحّل من سهول الحافة الشرقية لأوروبا إلى وسط القارة، وفي بعض الأجزاء منها يظهر أثر حمضهم النووي في 75% من الجينات الموروثة للسكان الحاليين.

بعد ذلك انتقل أحفاد هؤلاء الرحّل غربا نحو بريطانيا، حيث اختلطوا مع سكان العصر الحجري الحديث، لدرجة أنه خلال بضع مئات من السنين أصبح هؤلاء القادمون الجدد يمثلون أكثر من 90% من جينات هذه الجزيرة، حتى أن هذه الأبحاث تبين أن بريطانيا أُعيد استيطانها بالكامل من طرف هؤلاء المهاجرين.

تم تحليل بقايا الحمض النووي في رفات 400 شخص أوروبي (بيكسابي)

هجرة كبرى

ويوم الأربعاء الماضي نشرت مجلة نيتشر ورقة بحثية جديدة قدم فيها الدكتور رايش معلومات مذهلة حول التاريخ الجينومي لبريطانيا، وتوثق هذه الدراسة -التي شارك فيها 223 باحثا- هجرة كبرى لم تكن معروفة سابقا نحو بريطانيا في الفترة بين 1300 و800 قبل الميلاد، إذ إن تحليل الحمض النووي في رفات 793 شخصا كشف عن موجة نزوح جماعي في أواخر العصر البرونزي حملت معها حوالي نصف أسلاف سكان إنجلترا وويلز، وربما يحل هذا الاكتشاف لغزا آخر في التاريخ البريطاني، باعتبار أن هذا النزوح ربما حمل معه أولى اللغات الكلتية من أوروبا إلى هذه الجزيرة.

وبحسب النتائج، فإنه خلال الفترة بين ألف و875 قبل الميلاد تزايد حضور أسلاف المزارعين الأوروبيين في جنوب بريطانيا فقط وليس في شمالها، وهؤلاء الوافدون الجدد تتشابه جيناتهم مع جينات سكان فرنسا القدامى.

هؤلاء الوافدون كانوا يمثلون نصف التركيبة الجينية لسكان جنوب بريطانيا خلال العصر الحديدي الذي بدأ في حوالي 750 قبل الميلاد واستمر إلى حدود وصول الرومان في عام 43 ميلادي، وهو ما يفسر النتائج السابقة لتحليل الحمض النووي، والتي ركزت على هذه الفترة وبينت أن الحضور الأوروبي في بريطانيا كان هامشيا.

وينقل الكاتب عن آيان أرميت عالم الآثار في جامعة يورك وأحد المشاركين في هذا البحث أن العلماء لوقت طويل كانوا يعتقدون أن التنقلات عبر بحر المانش خلال وسط وأواخر العصر البرونزي كانت تقتصر على المبادلات التجارية، وكان السفر لهذه المسافة الطويلة مقتصرا على أقلية من التجار والمجموعات العسكرية، لكن عينات الحمض النووي تظهر أن أعدادا كبيرة من كل فئات المجتمع كانت تسافر نحو بريطانيا.

حركة البشر عبر بحر المانش شكلت بريطانيا في العصر البرونزي (الجزيرة)

حركة البشر هي العامل

ويقول الكاتب إن نتائج هذه الدراسة تمثل انتصارا كبيرا للعلم، وتقدم نظرة على بريطانيا في العصر البرونزي، وحركة السكان عبر القرون، وتبعات ذلك على المستوى الثقافي واللغوي.

وأشار إلى أن الدكتور رايش -الذي يعد رائدا في مجال علم الجينات القديمة- تمكن من تحليل عدد كبير من عينات الحمض النووي القديم، بفضل التطور التكنولوجي الذي جعل هذه العملية أسهل وأقل تكلفة، إذ إن فريق الباحثين قام بتحديد تسلسل الحمض النووي لبقايا هياكل عظمية قديمة ثم مقارنتها مع عينات جينية لأشخاص على قيد الحياة، وذلك من أجل تحديد الخصائص الوراثية لأشخاص عاشوا قبل وقت طويل، وهي عملية فشل كل علماء الآثار والحفريات في التوصل إليها.

في المقابل، يشير الكاتب إلى أن عملية تحليل المادة الوراثية في هذه البقايا البشرية قوبلت لدى البعض بالاستهجان خوفا من أن تؤدي إلى إثارة بعض المشاكل والنعرات، باعتبار أن القيام بهذه التحاليل في مناطق أخرى يمكن أن يؤدي لطرح أسئلة حول حقيقة السكان الأصليين في بعض البلدان، وهو ما سيغذي النعرات القومية وكراهية الأجانب.

ويشير الدكتور رايش إلى أن حركة البشر كانت دائما هي العامل الذي يؤدي لنقل وتطور اللغات، ويبدو واضحا أن موجة الهجرة من أوروبا كانت سبب انتشار أولى اللهجات الكلتية في بريطانيا، إذ إن هذه اللغة يتفق الجميع على أنها تنحدر من اللغات الهندية الأوروبية، وقد انتشرت من أوروبا باتجاه الغرب، ولكن كان هناك خلاف حول كيفية ووقت انتقالها إلى بريطانيا.

وتشير هذه النتائج الجديدة إلى أن متحدثي هذه اللغة بدؤوا انتشارهم في بريطانيا من خلال مدينة كنت الواقعة في جنوب شرق إنجلترا ويفصلها عن السواحل الفرنسية بحر المانش.

وتؤكد هذه النتائج أن متحدثي الكلتية نقلوا لغتهم بعد ذلك نحو الشمال والغرب وجنوب إنجلترا إلى أن أصبحت لغتهم هي الطاغية في أغلب أجزاء بريطانيا، قبل أن تصل لاحقا لغات جديدة مع موجات الهجرة، مثل اللاتينية التي جلبها الرومان، والإنجليزية التي جلبها الإنجلوسكسونيون، واللغة النوردية التي جلبها الفايكنغ، والفرنسية التي جلبها النورمانديون.

المصدر : نيويورك تايمز