الديانة الشنتوية.. تراث أسطوري يحكي قصة اليابان من نشأتها حتى الاستسلام

الشنتوية لا تقدم حلا ناجعا للقلق من الموت، فهي لا تتحدث عن البعث والخلاص؛ لذا يفضّل اليابانيون اعتماد الطقوس البوذية في جنائزهم

National Festival To Celebrate the Throne of New Emperor In Tokyo
إحياء المراسم التقليدية لتنصيب الإمبراطور ناروهيتو عام 2019 على الطريقة الشنتوية (غيتي)

كما هي حال الديانات الآسيوية الضاربة في عمق التاريخ، يتراكم تراث طويل من الأساطير والتقاليد لتشكيل "الشنتوية"، ديانة اليابان القومية وصانعة هويتها المميزة، التي ما زالت حاضرة في أروقة السياسة ونُصب الحروب ومراسم الزواج، وحتى أفلام الأنمي.

وبالرغم من اعتماد اليابانيين العلمانية نمطا لحياتهم، وليس منهجا سياسيا فحسب، فإن التراث الشنتوي ما زال حاضرا في تفاصيل كثيرة، وقد يكون الابتعاد والاقتراب منه مؤشرا لمعايير النجاح في شتى المجالات، لا سيما مع تصدر الحزب الديمقراطي الليبرالي للمشهد السياسي منذ سنوات، وهو الذي يحرص على إيجاد توليفة للجمع بين الليبرالية الغربية وإحياء الهوية الشنتوية للبلاد.

وقد يفاجأ القارئ بالاطلاع على تداخل الديانات في اليابان، فالإحصاءات تشير إلى أن عدد معتنقي الشنتوية يبلغ 160 مليونا، وأن عدد من يعدون أنفسهم بوذيين 96 مليونا، مع أن إجمالي عدد السكان هو 125 مليون نسمة. وسبب وجود زيادة في عدد المعتنقين لهاتين الديانتين عن إجمالي عدد السكان، هو اشتراك الشنتوية والبوذية لدى كثير من اليابانيين، بل لا يرى بعضهم أي مشكلة في دمج معتقداته بالمسيحية كذلك.

ومن الشائع في اليابان الاحتفال بالأعياد الشنتوية والبوذية والمسيحية معا، وقد تقام حفلات الزفاف في أحد المعابد أو الكنائس، كما يفضل كثيرون إقامة طقوس الدفن على الطريقة البوذية.

Ritual to usher in the upcoming New Year at Meiji Shrine in Tokyo
كهنة الشنتوية يقيمون طقوسهم عند رأس السنة أمام ضريح الإمبراطور مييجي (رويترز)

أصول تسبق التأريخ

مع أن الغموض يكتنف كل الديانات الآسيوية الباطنية (الغنوصية)، إلا أن الشنتوية قد تكون أكثرها غموضا في نشأتها، إذ لا يُعرف حتى الآن مصدرها الأول، وقد تعود جذورها إلى التقاليد السحرية والوثنية في "فترة جومون"، التي تمتد إلى ما قبل التاريخ، ثم ترسخت في أثناء "فترة يايوئي" خلال القرن الأول قبل الميلاد مع ظهور زراعة الأرز في اليابان وبدء تشكل الحضارة.

ظلت العرّافات (الشامانات) متزعمات للكهنوت الديني في تلك الفترة من خلال اتصالهن بالأرواح، وبالأحرى الشياطين، وكانت لهن سلطة كبيرة في المجتمعات الزراعية، ثم تناقصت أدوارهن مع بدء توحيد البلاد لتشكيل نواة الدولة الجديدة في "فترة كوفون"، تحت سلطة سلالة الأباطرة "ياماتو" التي بدأ حكمها في القرن الرابع الميلادي وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

ويرجع أصل تسمية فترة كوفون إلى الأكوام الكبيرة من التراب التي اتخذت أضرحة للقادة الكبار، التي كان طول بعضها يمتد إلى أكثر من 200 متر، على هيئة ثقب المغلاق، وكانت تحاط بأطباق لتقديم القرابين للآلهة.

وفي القرن الميلادي الخامس، ومع تشكل الدولة واكتمال نضجها، وضع الكهنة طقوسا معقدة وطويلة لكل مراحل حياة الإنسان، من الولادة إلى البلوغ ثم الزواج والوفاة. وفي هذه الفترة نفسها بدأ دخول البوذية عن طريق الاتصال بالحضارة الكورية، واندمجت بالشنتوية في سلسلة من حلقات التأثير بين الطرفين.

تعود أولى مراحل التدوين في اليابان إلى القرن السابع الميلادي، أي بعد دخول البوذية وتشكل الكثير من مظاهر الحضارة والدين، مما يعني صعوبة تخمين ما حدث في البدايات السابقة قبل ذلك. وتعد سجلات "كوجيكي" أقدم الكتابات اليابانية، وهي سابقة بقليل على مدونات "نيهون شوكي"، التي نتعرف منها على أسطورة نشأة بلاد اليابان، وعلى نسب العائلة الإمبراطورية. وكان هدف تدوين هذه الكتابات المبكرة وغيرها هو تسجيل أسبقية معتقدات الشنتوية ومدى توافقها مع البوذية الدخيلة.

Japan's Prime Minister Fumio Kishida attends a customary New Year's visit at Ise shrine
رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا يسير خلف كاهن من الشنتو خلال زيارة معتادة عند رأس السنة الميلادية لأحد الأضرحة (رويترز)

آلهة غامضة وتاريخ مقدس

حسب الأسطورة الشنتوية، كان الكون في حالة غامضة من عدم التشكل والسكون، ثم تشكلت الجزيئات الأولية تلقائيا، فتربع الضوء على قمة الكون، وتكثفت من تحته جزيئات المادة المظلمة. وبطريقة غير مفهومة، بدأ ظهور الأشكال الأولى من الآلهة، ولم يكن لها جنس محدد، وكانت تختبئ عند ولادتها، إلى أن ظهرت 5 أزواج من الآلهة، كل منها مكون من إله ذكر وإلاهة أنثى.

وكان الإله "إيزاناغي" والإلاهة "إيزانامي" هما آخر الأزواج، وقد أوكلت لهما مهمة إنجاب العالم وخلق أرخبيل اليابان، فوقفا على جسر السماء العائم، وقذفا في المحيط رمحا مرصعا بالجواهر، ثم رفعاه إلى السماء فتقاطرت منه قطرات أصبحت جزر اليابان "المقدسة". ومن خلال تزاوجهما الطبيعي، نتجت سلاسة الجنس الياباني، أما إلاهة الشمس "أماتيراسو أومي كامي" فانبثقت من العين اليسرى للإله "إيزاناغي"، والتي نتجت عنها السلالة المقدسة لأباطرة اليابان.

تعتقد الأسطورة أيضا بوجود الأصل الباطني للوجود، "كامي". وهو مفهوم غامض تصعب ترجمته للغات الأخرى، ويشمل كل ما يتعلق بعالم الأرواح غير المادي. يرفض كهنة الشنتوية تعريفه بالإله أو الآلهة، فهو في اعتقادهم أكثر شمولا، إذ يطلق على كل تشكلات الآلهة وعلى أرواح القادة العظماء -وعلى رأسهم الأباطرة- كما يتمثل في كل قوى الطبيعة من جمادات وأشجار وحيوانات، ولا يمكن فهمه إلا من خلال معتقدات الحُلولية الغنوصية التي تضفي معنى روحيا على الكثير من مظاهر الوجود.

وتربط الشنتوية بين كل ظاهرة وآلهة معينة، فأعداد الكامي لا يمكن حصرها، ويمكن لكل قرية أو عشيرة أو عائلة أن تحدد الكامي التي تريد عبادتها، فتقدم لها القرابين وتتوقع منها التكرم بالرزق والحماية. وفي العصر الحديث المتسم بالفردانية، يمكن لأي شخص أن يفترض وجود آلهته الخاصة حسب نمط حياته.

وبما أن الأباطرة يتربعون على قمة الهرم، فمن المتوقع اعتبار الكامي الخاصة بسلالتهم هي الأقدس والأشهر. وقد أدت الشنتوية دورا جوهريا في تشكيل ثقافة الانضباط بالمجتمع الياباني، بدءا بإضفاء القداسة على البلاد نفسها، ثم على قادتها المنتسبين إلى إلاهة الشمس.

A Shinto priest accompanies a group of Japanese lawmakers as they visit the Yasukuni shrine to pay respects to the country's war dead in Tokyo
كاهن من الشنتو يتقدم مجموعة من المشرعين اليابانيين في أثناء زيارتهم لضريح ياسوكوني في طوكيو العام الماضي لإحياء ذكرى قتلى الحروب (رويترز)

الأسطورة في خدمة السياسة

تقول سجلات "نيهون شوكي" إن الإمبراطور جيمو أسس اليابان عام 660 قبل الميلاد، لكن كثيرا من المؤرخين المعاصرين لا يقرون بوجود حقيقي له، ويرون أن الإمبراطور آنكو من القرن الخامس الميلادي، الذي يحتل المرتبة العشرين في السلالة، هو أول حاكم تاريخي لليابان، مع أنهم ليسوا متأكدين أيضا من دقة تاريخه.

ومع أن الأصل الإلهي للملوك كان أسطورة شائعة حول العالم لإضفاء الشرعية على الحكم، لكن اليابان هي البلد الوحيد الذي احتفظ بأسطورته تلك، حتى بعد دخوله السريع في عالم الحداثة ولحاقه بالثورة الصناعية التي كانت مرادفة للعلمانية في الغرب.

ولعل تراجع العديد من الأباطرة عن التمسك الفعلي بمقاليد الحكم لعب دورا في احتفاظهم بقداستهم، فمنذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي كان الشوغون (الحاكم العسكري لليابان) هو صاحب السلطة العليا، بحماية محاربي الساموراي، وظل هذا العرف سائدا حتى نهاية فترة إيدو عام 1868، أي مع بدء التاريخ الحديث للبلاد الموافق لبداية فترة مييجي، وهي التي شهدت ما سمي بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والإدارية المقتبسة من أوروبا، وما تبع ذلك أيضا من اقتباس لأسباب النهضة العلمية والصناعية.

وفي عام 1924، جلس ولي العهد هيروهيتو على العرش الإمبراطوري، مبتدئا أطول مدة حكم في تاريخ البلاد، ولعلها أيضا الأكثر خطورة، ففي عهده اندلعت الحرب الصينية اليابانية الثانية عام 1937، وبعدها ببضع سنوات دخلت اليابان الحرب العالمية الثانية، ولم تخرج منها إلا بسقوط القنبلتين النوويتين الوحيدتين في التاريخ على اثنتين من كبرى مدنها، هيروشيما وناغازاكي.

وفي 15 أغسطس/آب 1945، بثت الإذاعة بلاغا بصوت الإمبراطور هيروهيتو معلنا إنهاء الحرب، وجاء فيه "بدأ العدو باستخدام قنبلة جديدة وأشد ضراوة، لا تحصى قدرتها على الأذى، وتسبب خسارة الكثير من الأرواح البريئة. إذا واصلنا الكفاح، لن يؤدي ذلك إلى انهيار الأمة اليابانية وطمسها في نهاية المطاف فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى الانقراض التام للحضارة الإنسانية".

ثم قال "في هذه الحال، كيف ننقذ الملايين من مواطنينا، أو نكفّر عن أنفسنا أمام الأرواح المقدسة لأسلافنا الإمبراطوريين؟ هذا هو السبب في قبولنا أحكام الإعلان المشترك لدول التحالف". ومنعا للبس، أكدت الإذاعة أن اليابان قبلت "الاستسلام"، وهي لفظة لم ينطق بها الإمبراطور حفاظا على الهيبة.

حرصت الولايات المتحدة على الاحتفاظ بما بقي من هيبة الإمبراطور، أملا في تحقيق السلام بعد الحرب، ولم يحمّله الإعلام الغربي المسؤولية التي أدت إلى شيطنة حليفيه، زعيمي ألمانيا وإيطاليا أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، بل اعتُبر الإمبراطور بمثابة "رئيس صوري" أمام مجلس الوزراء والأوليغارشية العسكرية.

ومع ذلك، سقطت عن الإمبراطور آخر أوراق القداسة التي احتفظ بها أجداده طوال قرون، وأدرك شعبه أخيرا أنه ليس سوى إنسان مثلهم، لا سيما بعد نشر صورته بجانب الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر في الشهر التالي للاستسلام، حيث بدا الإمبراطور بقامته القصيرة خاليا من كل مظاهر الألوهية.

U.S. General Douglas MacArthur meets with Japan's Emperor Hirohito following Japan's surrender at the end of World War Two in Tokyo
الإمبراطور هيروهيتو بجانب الجنرال الأميركي دوغلاس ماك آرثر بمقر السفارة الأميركية في طوكيو بعد الاستسلام (رويترز)

صراع الأسطورة والحداثة

كانت الهزيمة صدمة لليابانيين بكل المقاييس، وجاءت بعد صدمتهم الأولى بدخول بلادهم المسالِمة حقبة من الحروب والطمع في البلاد المحيطة، فلم يتخلصوا من عبئها إلا وهم ينفضون الغبار النووي عن الأنقاض.

وبينما كانت أوروبا المدمرة تكافح لإعادة الإعمار، والولايات المتحدة تحصد ثمار انتصارها بالتربع على صدارة العالم، تمكنت اليابان من حرق المراحل واستعادة أمجادها بسرعة، وحققت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين معجزة اقتصادية كادت أن تتغلب بها على الولايات المتحدة نفسها.

يرى بعض الباحثين أن الدستور الجديد، الذي اعتُمد عام 1947 في أعقاب الحرب، هو الذي مكّن اليابان أخيرا من التخلص من عبء الثيوقراطية (الحكم الديني) الأسطورية التي أثقلت كاهلها، فمع أن الأباطرة "المقدسين" لم يستبدوا بالحكم منذ ظهور الشوغون ومجالس الوزراء، إلا أن الدستور السابق كان يحفظ للأباطرة الحق الإلهي بالتشريع.

وتنص الفقرة 20 من الدستور الحالي على أن "حرية الدين مضمونة للجميع. ولا يجب أن تحصل أي منظمة دينية على أي دعم مالي من الحكومة، أو أن تقوم بأي نشاط سياسي"، لكن الحكومات التالية حاولت تحقيق بعض التوازن، وأعادت إحياء تراث البلاد الديني من باب الحفاظ على الهوية، وقد لا يخلو الأمر من إثارة بعض الجدل.

ففي ربيع عام 2019، أقيمت مراسم تنصيب الإمبراطور ناروهيتو، إثر تخلي والده أكيهيتو عن العرش لأسباب صحية، وفقا للطقوس الشنتوية المعتادة. وبعد عدة شهور من بدء المراسم، أقيم طقس دايجوساي الذي يتضمن ارتداء الإمبراطور ملابس بيضاء، ثم الدخول إلى قاعة خشبية مظلمة لقضاء الليل برفقة إلاهة الشمس "أماتيراسو أوميكامي" التي ينحدر من نسلها، كما تقول الأسطورة.

وسرعان ما رفع ناشطون ملحدون ومسيحيون دعاوى قضائية إلى القضاء الياباني، إذ رأوا أن هذه المراسم تنتهك الدستور العلماني، وتكلف الحكومة نحو 25 مليون دولار لتنفيذها.

Abdication Ceremony of Japan Emperor Akihito
الإمبراطور أكيهيتو (85 عاما) يؤدي مراسم تخليه عن العرش لابنه ناروهيتو عام 2019 (الأناضول)

وفي تحقيق أجراه معهد غالوب الدولي عام 2015، احتلت اليابان المرتبة الثانية -بعد الصين- في قائمة الابتعاد عن الإيمان، إذ قال 31% من اليابانيين إنهم ملحدون، بينما رأى 57% منهم أنهم بدون انتماء ديني، ولا يتعارض ذلك مع الإحصاءات التي أوردناها في بداية التقرير، فالياباني لا يجد حرجا في اعتبار نفسه معتنقا الشنتوية أو البوذية، ثم يعلن أنه ملحد لا يؤمن بإله.

ولعل التعايش مع هذا التناقض هو الحل الوحيد الذي انتهى إليه اليابانيون، فاعتناقهم الشنتوية أو البوذية لا يتجاوز القيام ببعض الطقوس الاختيارية، طلبا للبركة والهدوء النفسي، ولسد بعض الفراغ الروحي الناشئ عن نمط الحياة المادي، أما الأسئلة الوجودية فيحاولون التهرب منها بالمزيد من العمل والإنجاز المهني.

لا تقدم الشنتوية حلا ناجعا للقلق من الموت، فهي لا تتحدث عن البعث والخلاص، لذا يفضّل اليابانيون اعتماد الطقوس البوذية في جنائزهم، مع أنهم لا يجدون في النسخة المعدلة منها -وهي "بوذية الزِّن"- ما يشبع نهم الإنسان في البحث عن الخلود، إذ لا تتجاوز وعودها تحرر الروح من أسر التناسخ للاندماج بالروح الكلية للكون.

وبما أن الشنتوية لم تعد تحقق الكثير من الإنجازات، سواء على صعيد تقديم الأجوبة الفردية، أو ضبط العقد الاجتماعي، فمن المفهوم خلوّ معابد اليابان -التي يناهز عددها 80 ألفا- من المصلّين، واقتصار أدوار كهنتها على تقديم البركة وأداء المراسم التقليدية واستقبال السياح.

Visitors on the first business day of the New Year at the Kanda Myojin shrine in Tokyo
موظفون ورجال أعمال يبدؤون أول أيام العمل في رأس السنة الميلادية بمباركة من أحد كهنة الشنتوية في طوكيو (رويترز)
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية