إحصاء 1987 ما زال معتمدا.. لماذا التعداد السكاني في العراق يراوح مكانه؟

خبراء يرون ضرورة بدء التعداد بوصفه أولوية لتحقيق الأمن والخدمات والتنمية البشرية والاقتصادية

العراق قدّر عدد سكانه بنحو 40 مليون نسمة (رويترز)

ما زالت علامات الاستفهام تحوم حول أسباب عجز الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 عن إجراء التعداد السكاني، مع اعتماد العراق على تعداد عام 1987، الذي اشتركت فيه جميع المحافظات، وليس إحصاء عام 1997 الذي أجري من دون مشاركة محافظات إقليم كردستان، ودوافع عدم اتفاق القوى السياسية على إجرائه.

وظل العراق طيلة السنوات الماضية معتمدًا على الأرقام الإحصائية التقريبية الصادرة من مؤسسات ومراكز أبحاث غير رسمية تُعنى بهذا الشأن، قبل أن تعلن وزارة التخطيط في فبراير/شباط الجاري أن التعداد السكاني التقريبي للبلاد عام 2020 بلغ 40 مليونا و150 ألف نسمة، وهم موزعون بواقع 50.5% للرجال، و49.5% للنساء.

وشملت فئة الناشطين اقتصاديًا السكان في سن العمل من (15-64) سنة، وكانت هي النسبة العليا بين الفئات العمرية، إذ بلغت 56.5% من مجموع السكان، تلتها فئة صغار السن حتى 14 عاما، والتي شكلت 40.4% من مجموع سكان العراق، في حين جاءت نسبة سكان كبار السن (65 سنة فما فوق) الأقل بين الفئات العمرية، إذ سجلت ما نسبته 3.1% فقط.

وشغلت محافظات إقليم كردستان العراق نحو 5.5 ملايين نسمة من المجموع الكلي، أما توزيع الكثافة السكانية في المحافظات الأكثر، فتأتي العاصمة بغداد أولاً بـ8 ملايين و550 ألف نسمة، تليها نينوى بواقع 3 ملايين و500 ألف نسمة، ثم البصرة بما يتجاوز 3 ملايين نسمة.

وهناك ثبات في معدلات الازدياد السكاني في العراق خلال 10 سنوات الأخيرة، والتي سجلت بين 850 ألفا إلى مليون سنويا، بنسبة مقدارها 2.6%، وهي عالية إذا قورنت بباقي دول المنطقة التي لا تتجاوز 2% باستثناء مصر.

القاضي عبدالستار رمضان (الجزيرة)
رمضان أكد ضرورة إجراء التعداد السكاني مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في العراق (الجزيرة)

المذهب والقومية والعشيرة

يأتي إصرار بعض القوى السياسية على تضمين حقل المذهب بين سني وشيعي، ومطالبة أخرى بتضمين لقب العشيرة، مع بروز مطالبات بتضمين القومية بين عربي وكردي وتركماني وآشوري، بالإضافة إلى دخول أزمة المناطق المتنازع عليها ضمن ما يعرف بالمادة 140 من الدستور العراقي؛ بوصفها أبرز الأسباب التي أعاقت إجراء تعداد شامل في البلاد حتى الآن.

وعرّف قانون أصدره مجلس النواب العراقي عام 2008 التعداد العام للسكان بأنه جميع الأرقام والبيانات المتعلقة بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والصحية للسكان، وتشمل بيانات التعليم ومستوى المعيشة والقومية والدين والسكن وبيانات أخرى، وتشكل هذه البيانات والمعلومات والأرقام أهمية بالغة لأي مجتمع من أجل التخطيط العلمي الدقيق، كما يقول القاضي عبد الستار رمضان.

ويُشير رمضان في حديثه للجزيرة نت إلى حجج مختلفة وراء تأجيل التعداد مرات عديدة، مضيفًا أن العراق ما زال يعتمد على البيانات والأرقام لإحصاء عام 1977 الذي أشادت به الأمم المتحدة، مؤكدًا أهمية وضرورة إجراء التعداد العام للسكان، لا سيما أن العراق مقبل على انتخابات، وهي خطوة مهمة لكل نواحي الحياة.

عبدالزهرة الهنداوي الجزيرة 1
الهنداوي يعزو تأجيل إجراء التعداد إلى تفشي كورونا والأزمة المالية (الجزيرة)

معوقات صحية ومالية

يعزو متحدث وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي أسباب التأجيل إلى الظروف الصحية التي واجهتها البلاد مع انتشار جائحة كورونا مطلع 2020، بعد الإعلان عن إجراء التعداد في العام المذكور، بالإضافة إلى الأزمة المالية وعدم وجود موازنة، فضلاً عن عدم توفر المؤهلات الكافية، لا سيما أن الأمر يحتاج إلى فعاليات ضخمة وكبيرة تتطلب جهودا وتحرّك فرق كبيرة من العاملين تصل إلى نحو 150 ألف شخص يتجوّلون في عموم العراق.

وينفي الهنداوي وجود أسباب سياسية وراء التأجيل، لا سيما بعد تفاهمات أجرتها الوزارة مع كافة الأطراف السياسية في البلد، مؤكدًا أن وزارته لم تصطدم برأي مخالف أو معارض للتعداد، لا سيما بعد رفع حقل القومية من استمارة الإحصاء الذي أثار ردود أفعال غاضبة، مثمنًا الموقف السياسي الإيجابي حول هذا الأمر، في إشارةٍ منه إلى عدم وجود أي أسباب مشتركة للتأجيل ترتبط بالانتخابات المقرر إجراؤها في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

ويُشيد الهنداوي بإمكانات وزارته لإجراء التعداد الذي تسبقه سلسلة إجراءات وخطوات، منها شراء أجهزة تستخدم للتعداد وبناء مراكز بيانات وتدريب العدادين وتوفير الخرائط، فضلاً عن إجراء تعداد تجريبي وعمليات الترقيم والحصر التي تسبق التعداد، إلا أن كل ذلك غير ممكن ما لم تتوفر مخصصات مالية تسدّ الحاجة، ليؤكد في حديثه للجزيرة نت أن وزارته ستمضي في التأجيل في حال لم تتوفر هذه المتطلبات المادية واللوجيستية.

ولا يتفق الصحفي العراقي محمد البغدادي مع الهنداوي في ما ذهب إليه، ويؤكد وجود أسباب سياسية وراء عدم إجراء التعداد في ظل الأزمات السياسية والمالية المتتالية التي تعرقله، بالإضافة إلى ما يسميها "ولاءات سياسية وطائفية"، وتحشيد مذهبي في مناطق معينة من البلاد.

ويحذر البغدادي في حديثه للجزيرة نت من استمرار هذه المعاكسات التي ستؤدي إلى انهيار البنية المجتمعية العراقية التي ترغب في الوحدة والانسجام وهدم الحدود السياسية والانفتاح على وطن يمثَّل فيه الجميع وفق الاستحقاق والأغلبية من دون غمط حق الأقلية.

ويقرّ الصحفي العراقي وجود قوى سياسية عراقية تصر على عدم إجراء التعداد خوفا على مصالحها وحصصها في البرلمان، وعلى توزيع الحقائب الوزارية والوزارات السيادية، علاوة على وجود مخاوف لدى قوى أخرى من أن يسهم التعداد في ما تسمى "أقلمة المناطق"، كما تطالب بعض المحافظات على أساس مذهبي وعرقي.

الباحثة الاقتصادية عُلا التميمي (الجزيرة 3)
علا التميمي ترى أن التعداد السكاني دالة أساسية للحصول على بيانات حقيقية في كافة القطاعات (الجزيرة)

أضرار اقتصادية

ومن وجهة نظر اقتصادية، يعد التعداد العام للسكان الدالة الأساسية للحصول على بيانات حقيقية في كافة القطاعات البشرية والسكانية والصناعية والزراعية والمرافق التجارية وحتى الأمنية، وهذه البيانات هي مدخلات لصناعة سياسات وإستراتيجيات تنموية، وخلق بيئة آمنة ومستقرّة للمواطن من ناحية تأمين الخدمات الأساسية والتربوية والصحية، وإنتاج وحدات خالقة للسوق وموفرة لفرص عمل حقيقية لا صورية، كما تقول الباحثة الاقتصادية عُلا التميمي للجزيرة نت.

إلا أنه واقعيًّا -حسب علا التميمي- يفتقد العراق إلى هذه البيانات في كافة القطاعات؛ لذا فإن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية في المجتمع ينطلق من مرتكزين أساسيين: الصحة والتعليم، وبالتالي خلق فرص عمل، وهذا المبدأ -أي العدالة- لا يمكن تحقيقه من دون توفر بيانات تُبنى على هيكليتها تلك السياسيات.

ويقوّض التأخر في إجراء التعداد العام التنمية، سواء كانت قُطرية أو مناطقية، فضلاً عن استنزاف إيرادات الموازنة العامة للدولة، كونها توجه على أُسس افتراضية أو عينيّة وليست بأرقام إحصائية تتصف بالدقة، حسب علا التميمي. وتضيف أنه منذ 17 عاما والدولة العراقية تبني أُسسها التنموية على مقاييس بعيدة عن الواقعية، وأقرب إلى التخمينية، بما في ذلك النظام اللامركزي الذي رسمه الدستور.

وستوفر بيانات التعداد السكاني للحكومات المتعاقبة أدوات علمية لرسم إستراتيجيات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد تصب في استقرار البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتؤكد علا التميمي ضرورة بدء الإحصاء بوصفه أولوية لا غنى عنها إذا أردنا تحقيق الأمن والخدمات والتنمية البشرية والاقتصادية.

المصدر : الجزيرة