الحرب و مواقف دول جوار السودان (2-3)

الاف المدنيون في السودان تبرعوا للقتال بجانب الجيش - مواقع تواصل
آلاف المدنيين في السودان تطوعوا للقتال بجانب الجيش (مواقع تواصل)

في المقال السابق استعرضنا مواقف بعض دول الجوار السوداني، من الحرب الدائرة في السودان، وما هي العوامل التي ساهمت في صناعة هذه المواقف، والعلاقات المتشابكة حيالها وكيفية التواصل مع مكوّناتها، وركّزنا على إثيوبيا وإريتريا.

ويأخذنا الحديث في هذه الحلْقة الثانية إلى دول أخرى من جوار السودان، قد وجدت نفسها وسط تلاطم الموج الهائل لهذه الحرب، والعواصف التي تهبّ من كل اتجاه، والكل يعلم أن ما يجري سيجرّ المنطقة برمّتها إلى حضيض الحرب الإقليمية الطاحنة، وستكون تداعياتها وبالًا على الجميع، مهما تفاوتت الدرجات والمناسيب، ومن هذه الدول جنوب السودان، وأفريقيا الوسطى، وتشاد، وهي الدول المعنية بهذه الحلْقة.

وجد قائد الدعم السريع بين يديه فرصًا ثمينة لصناعة علاقة سياسية، ووجود تجاري واستثماري يمهدان لنفوذ سياسي في جنوب السودان؛ مستفيدًا من إدارته ملفي السلام بالبلدين

جنوب السودان

غني عن القول، أنَّ جمهورية جنوب السودان ذات ارتباط عضوي وثيق بالسودان، فقد كانت جزءًا منه، وانفصلت عنه بعد حروب طويلة وتمرُّد بدأ 18 أغسطس/ آب 1955م، ولم يكن السودان يومئذ دولة مستقلة عن الاستعمار البريطاني، إلى أن انتهى التمرد الأخير في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2004، بتوقيع اتفاقية السلام في نيفاشا الكينية، ثم انفصال جنوب السودان في يوليو/تموز 2011م.

ظلت العلاقة بين البلدين مع حملها الثقيل، تقوم على تقديرات دقيقة مراعاة لخصوصيتها وتتفاعل باستمرار بما يجري، واستطاع الرئيسان: عمر البشير، وسلفاكير المشي فوق الأشواك وحافظا على العلاقة بين البلدين؛ رغم تباعد الخطى أحيانًا، ووجود تقاطعات ذات كلفة عالية هنا وهناك، تحمَّلا بعضهما حتى ذهاب عهد الرئيس البشير.

من الطبيعي أن يرحّب ويدعم جنوب السودان، القيادة الجديدة للسودان بعد 11 أبريل/نيسان 2019م، فالرئيس سلفاكير، هو سليل المؤسسة العسكرية السودانية، وكان ضابطًا في استخبارات الجيش السوداني، حتى تمرد مع جون قرنق في مايو/أيار 1983، ويعرف الجيش السوداني معرفة جيدة، مقاتلًا في صفوفه، ثم مقاتلًا ضده مع الجيش الشعبي، والحركة الشعبية بقيادة جون قرنق.

عقب التغيير ونشوء نظام جديد في السودان أبريل/نسيان 2019م، لم يكن لقوات الدعم السريع علاقة متينة بدولة جنوب السودان، فسارع حميدتي بعد أن أصبح الرجل الثاني في الحكم لنسج علاقته الخاصة مع جوبا بعد تسلُّمه ملف التفاوض مع حركات التمرد في دارفور ومناطق أخرى، والانخراط في المفاوضات التي أفضت إلى توقيع اتفاق سلام جوبا في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020م.

وفي وقت متزامن تولى حميدتي، أيضًا، ملف الوساطة بين حكومة جنوب السودان ومعارضيها، خاصة الدكتور رياك مشار الذي كان يقود أكبر حركات المعارضة، وتم توقيع اتفاقية سلام خاصة بجنوب السودان في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2020م، وتم بموجبها تقاسم السلطة بين الرئيس سلفاكير، ونائبه رياك مشار.

وجد قائد الدعم السريع بين يديه فرصًا ثمينة لصناعة علاقة سياسية، ووجود تجاري واستثماري يمهدان لنفوذ سياسي في جنوب السودان؛ مستفيدًا من إدارته ملفي السلام بالبلدين.

وبسرعة وطّد علاقاته التجارية مع نافذين في حكومة جنوب السودان، ودخل في شراكات استثمارية مع أشخاص في مناطق صنع القرار أو قريبين منها، فاختار أن تكون له علاقة بشريك تجاري هو بول ميل، أحد كبار رجال الأعمال والقيادي في الحركة الشعبية ومستشار خاص للرئيس، ثم السيدة أدوك سلفاكير، كريمة الرئيس، وعمل مع هؤلاء في مشاريع للطرق والجسور واستجلب آليات وشاحنات لهذه المشاريع.

ثم عن طريق المستشار الأمني لرئيس الجمهورية السيد توت قلواك وآخرين، حصل على تعاقدات لتوريد احتياجات الجيش الشعبي: تعيّنات وملابس ومعدات.

ثم حصلت شركة "الجنيد" التي يملكها قائد الدعم السريع على عقود لشراء نفط من جنوب السودان، ولعب مدير جهاز الأمن الداخلي في جوبا، أكول كور دورًا في تسهيل الحصول على هذه التعاقدات، كما اشترى ديون الخرطوم على جوبا في رسوم عبور وتكرير نفط جنوب السودان.

وعملت شركات الدعم السريع مع الاستخبارات العسكرية للجيش الشعبي، لتسهيل عبور آليات ومعدات تعدينية إلى منطقة (سنغو) في أقصى جنوب دارفور على حدود جنوب السودان، مقابل أن يدعم قائد الدعم السريع عملًا تعدينيًا مشتركًا للتعدين في المناطق المتنازع عليها مع جنوب السودان (حفرة النحاس، كفيا كانجي، حفرة النحاس، كفن دبي)، وهي من أكثر المناطق في تاريخ السودان وجدت اهتمامًا بريطانيًا وألمانيًا وإسرائيليًا؛ بسبب وجود احتياطيات ضخمة من الذهب والنحاس والألماس واليورانيوم، وخصص قائد الدعم السريع وشركته "الجنيد" هدايا عبارة عن سيارات لبعض القادة العسكريين الذين سهّلوا عبور الآليات.

دخل حميدتي وشركته في استثمارات مشتركة مع رجل الأعمال الجنوب سوداني، كور أجين، الذي أسس شركة اتصالات تسمى: (ديجيتال DIGITAL)، يملك حميدتي أكثرية أسهمها، واشترى بنايتَين في وسط جوبا لصالح الشركة، تستغل بعض طوابقها شركة "الجنيد"، بجانب استثمار طبي- مستشفى (ملوك النيل NILE KINGS)، بجانب استثمارات أخرى، بالإضافة لتعاملات ومصالح مالية مع كثير من ذوي التأثير في جوبا.

وصلت ديون حميدتي على حكومة جوبا في توريد تعيّنات واحتياجات الجيش الشعبي أكثر من مليار دولار بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2022م، وقبيل الحرب ببضعة أشهر حدث خلاف حول هذه الديون، وبدأت جوبا تتململ من طريقة المطالبة بالديون.

وأوفدت جوبا وزيرَي المالية والبترول والمستشار الخاص للرئيس سلفاكير للخرطوم لمعالجة المسائل العالقة في موضوع النفط والديون، وتقليل وتقليص التعامل مع الدعم السريع في تعاملات البترول، حيث كانت بعض الديون تدفع من البترول الخام لجنوب السودان، كما حوت الزيارة رسالة تحذير من سلفاكير إلى رئيس مجلس السيادة الفريق أوَّل عبد الفتاح البرهان نقلها له مستشاره الخاص توت قلواك ملخصها: "أن حميدتي ينوي ويخطط لإطاحته من السلطة".

ونسب إلى السيد قلواك "أن حميدتي صارحه بأنه سيقوم بانقلاب ويطيح بالبرهان، وسيرفرف علم الدعم السريع فوق القيادة العامة للجيش السوداني". ويقول توت؛ إنه نصحه بعدم الإقدام على ذلك، وذكر مصدر مقرب للرئيس سلفاكير أن تقريرًا رفع له مفاده "أن حميدتي حدد ساعة الصفر لانقلابه على البرهان واعتقاله هو والفريق كباشي".

عندما بدأت الحرب، طرحت جوبا وساطتها في الأيّام الأولى، لكن كان هناك توجه أميركي بعدم إعطاء الرئيس سلفاكير أيَّ دور إقليمي، وتنامى دور كينيا وإثيوبيا، وكانت جوبا في حاجة لتهدئة الأوضاع في السودان؛ لمصالحها النفطية وحفاظًا على أمنها القومي، فطلبت أولًا من حميدتي وقواته ألا تهاجم المنشآت النفطية في السودان التي تتم عبرها عملية تصدير نفط جنوب السودان.

والدليل على هذا أنه عندما هاجمت قوات حميدتي منطقة العيلفون ودخلت المحطة النفطية لضخ البترول، اتصلت جوبا وطالبته بعدم التخريب ورضخ حميدتي للطلب؛ طمعًا في تسوية موضوع ديونه، كما أنه ساوم بمصفاة النفط الرئيسية في شمال العاصمة.

يدعم عدد من قادة الحركة الشعبية ومسؤولين في جنوب السودان، موقف الدعم السريع، وهو ما يناقض الموقف المعلن من الرئيس سلفاكير، ويحاول نائبه تعبان دينق، ود. ضيو مطوك، ولوكا بيونق، وفرانسيس دينق، ونيال دينق نيال، ووزير الخارجية السابق دينق داو ماييق، وآخرون، التعامل مع قائد الدعم السريع وتقديمه للدوائر الغربية باعتباره داعمًا لما يسمى بمشروع السودان الجديد، وحليفًا للحركة الشعبية، وسيلبي كل مطالبها خاصة في الموضوعات الحدودية مثل أبيي ومناطق أخرى، وهذا ما حواه تقرير كتبه الدكتور لوكا بيونق لمعهد السلام الأميركي بواشنطن عقب لقائه بحميدتي في نيروبي.

في اتجاه آخر تقاتل مع الدعم السريع حاليًا أعداد كبيرة من المقاتلين قدِموا من داخل دولة جنوب السودان، وهي عدة مجموعات مختلفة:

مجموعة استخبارات الجيش الشعبي: هي مجموعة قليلة العدد لا تتعدى 500 شخص، نشرهم الجيش الشعبي بالسودان مع الدعم السريع؛ لجمع المعلومات حول الحرب في السودان، وعن الحركات الجنوبية المسلحة وعناصرها المقاتلة. مجموعة المرتزقة الجنوبيين تم استجلابهم عبر سماسرة جنوبيين وشماليين (تسعة سماسرة يقودهم عميد متقاعد في جيش جنوب السودان وحاكم إشرافية أبيي شول دينق ألاك من الطرف الجنوبي)، تضم هذه المجموعة قبائل شتى من جنوب السودان وعددهم ما بين 5-7 آلاف مقاتل. مجموعة ضباط وعساكر فارين من الجيش الشعبي وهم في الخدمة؛ تسللوا للاستفادة من الحرب ومرتبات الدعم السريع، وهم العناصر المتخصصة في المدفعية والأسلحة الثقيلة.

وقد قتل من هؤلاء 120 من ضباط وجنود في معارك مدينة بابنوسة بغرب كردفان غربي البلاد في معارك من 24-26 يناير/كانون الثاني 2024م.

عناصر المعارضة الجنوبية: توجد مجموعات تتبع بول ملونق وتوماس سريليلو وستيفن بويا ولام أكول، ومجموعات من الاستوائية. مجموعات تدين بالولاء لنائب الرئيس تعبان دينق. عدد هؤلاء يقدر بأربعة آلاف مقاتل.

موقف جنوب السودان الآن مرهون بموقف الرئيس سلفاكير الذي يواجه ضغوطًا مكثفة من دول عديدة، وقد وعدته إثيوبيا وكينيا بتوقيع اتفاقيات تعاون وإنشاء طرق برية تربط البلدين ومصفاة البترول وخطوط أنابيب، ومع ذلك لا تزال جوبا تقول؛ إنها مع الحلول التي توفرها دول جوار السودان والإيغاد، رغم أن لجوبا مسارات خاصة بها ونصائح تقدمها للجميع.

أفريقيا الوسطى

نسبة لحالة الفوضى في هذا البلد وتأثير شركة فاغنر الروسية التي تتولى حماية نظام الرئيس فوستان تواديرا، فإن قوات الدعم السريع وجدت نفسها نتيجة تحالفها مع فاغنر الروسية، ونهب ثروات أفريقيا الوسطى من الذهب والألماس واليورانيوم ومعادن أخرى، تحمي نظام الرئيس في بانغي، وتحمي الحدود، وحاولت الدعم السريع استقطاب قبائل الجهات الشمالية والشرقية والغربية للانضمام لصفوفها، مستغلة الحدود المفتوحة بين السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد والتداخل القبلي، وحاولت استمالة حركة (سيليكا) حركة المعارضة الرئيسية بعد أن ناصبتها العداء، واعتقلت قادتها قبل الحرب في السودان، وهددت بعضهم، وكذلك حاولت مع كبرى حركات المعارضة (أنتي بلاكا).

وتسيطر فاغنر على بعض المطارات الترابية في أفريقيا الوسطى، تم تسخيرها لصالح نقل العتاد الحربي، وبعض أنواع الدعم اللوجيستي الذي ظلّ يصل بالفعل عبر أفريقيا الوسطى.

ونظرًا للعلاقات بين البلدين ودور السودان في عهد البشير لإحلال السلام في أفريقيا الوسطى، وتوقيع اتفاقية سلام في 2018، فإن موقف أفريقيا الوسطى يتراوح بين الدعم غير المعلن، ومحاولات التبرؤ منه، والاستجابة للضغوط والإغراءات المالية من داعمي الدعم السريع.

تشاد

لعبت تشاد دورًا محوريا في دعم التمرد، نتيجة للتداخل القبلي، ووجود مقاتلين تشاديين منذ العام 2014 في صفوف الدعم السريع، ولا توجد مشاكل محددة وواضحة بين الدولة السودانية وجيشها مع تشاد، لكن الموقف التشادي ذهب في اتجاه دعم الدعم السريع لعدة عوامل، منها عوامل خارجية، مثل الدور الإسرائيلي، ثم أسباب مالية، ولذا دفعت تشاد بضباط وجنود من جيشها للانخراط في الحرب لصالح الدعم السريع، وغضت الطرف وساعدت في تدفق المرتزقة الأفارقة نحو السودان، ثم فتحت مطاراتها لدعم قوات الدعم السريع، خاصة مطار أم (جرس)، ومطار (أبشي)، ومطار (نجامينا).

واستقبلت قيادات الدعم السريع الذين ينطلقون من أراضيها، ونسقت اجتماعات لقيادة الدعم السريع مع أطراف من الحركات المسلحة في دارفور، وضغطت على بعضها، وحدثت انشقاقات في حركة العدل والمساواة للضغط على قيادتها.

وتتولى العمل الداعم للدعم السريع قيادات في حكومة تشاد، مثل إدريس يوسف بوي، مدير مكتب الرئيس محمد إدريس ديبي، وهو صاحب نفوذ قوي ومرتبط بعدد من قيادات الجيش ورموز قبلية.

إن تشاد تعلم جيدًا وجود العدد الهائل من المقاتلين التشاديين داخل صفوف قوات الدعم السريع، وكذلك وجود عناصر المعارضة التشادية المسلحة المتحالفين مرحليًا مع التمرد في السودان، وتعلم خطورة هؤلاء على النظام الحاكم، لكنها تفكر على مستويين:

الأول: أن تقضي هذه الحرب على قيادات المعارضة العسكرية وكوادرها وقواتها، وهذا فيه مصلحة لنجامينا. والثاني: طمأنات حميدتي بمنع الارتداد العكسي للمعارضة التشادية إلى بلادهم حال انتهت الحرب بالسودان.

وتوجد استثمارات (نفط – ذهب)، وشركات تتبع الدعم السريع في تشاد، وتم دفع أموال كبيرة لعديد القادة والسياسيين والزعماء القبليين في هذا البلد. وقبل أيام رتبت الدعم السريع زيارات لوفد إعلامي تشادي زار مدينة الجنينة وولاية غرب دارفور بالسودان لتحسين صورة الدعم السريع داخل تشاد وخارجيًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.